أنت هنا

قراءة كتاب نافذة على الحداثة - دراسات في أدب جبرا إبراهيم جبرا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نافذة على الحداثة - دراسات في أدب جبرا إبراهيم جبرا

نافذة على الحداثة - دراسات في أدب جبرا إبراهيم جبرا

يتناول الدكتور عيسى بلاّطة، أستاذ الأدب العربي في جامعة ماكجيل بمونتريال / كندا، في هذا الكتاب مؤلفات صديقة الراحل جبرا إبراهيم جبرا بالتحليل والدراسة في خمس مقالات نقدية، ويبين دوره الفعّال في إرساء الحداثة في الأدب العربي المعاصر، بصفتها نابعة من أصالة ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

2

جبرا والخروج من المدار المغلق*
لجبرا ابراهيم جبرا أربع مجموعات شعرية باللغة العربية هي: تموز في المدينة (9 5 9 1)، وامدار المغلق (4 6 9 1)، ولوعة الشمس (8 7 9 1)، وقصائد بعضها للطّيف وبعضها للجسد (3 9 9 1)· وله مجموعة شعرية باللغة الإنكليزية لم تنشر بعد، ولكنه نشر منها قصائد متفرقة في لندن والقدس·
وسواء بالعربية كتب جبرا الشعر أم بالإنكليزية، فهو يكتبه دائماً حراً طليقاً من كلّ قيود الوزن المعروفة ومن كلّ ما يربطه بالمفاهيم التقليدية للشعر·
سأتناول في هذا المقال مجموعة جبرا الثانية المدار المغلق (طبعة بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1 8 9 1) لأنها تتراءى لي بكليّتها وكأنها قصيدة واحدة مطوَّلة أكثر مما هي الحال في مجموعاته الأخرى· ذلك أن المجموعة وإن كانت قد كُتبت في فترة امتدّت على مدى خمس سنوات من 9 5 9 1 إلى 4 6 9 1، إلا أن نَفَساً واحداً يجمعها ورؤية واحدة تنتظمها بكشل أوضح مما هو في المجموعات الأخرى التي لا تقلّ عنها شاعريّةً على كلّ حال، وقد تفوقها في اتساع تعبير الشاعر عن تجارب حياته·
في المدار المغلق يتخطى جبرا إنجازاته السابقة في مجموعته الأولى تموز في المدينة ويحقق مزيداً من التحكم في مادّته اللغوية والانطلاق في مجالات ثورة الفكر العربي الحديث والشعر العربي الجديد·
في مجموعته هذه الثانية يكتب جبرا الشعر، كما في مجموعته الأولى، حرّاً من كلّ أوزان العروض التقليدية، ولا يتقيّد حتى بالتفعيلة التي كتب بها كثير من الشعر الجديد منذ الخمسينات، ولم يتحوّل إليه كما تحوّل إليه أدونيس مثلاً بعد مدة من كتابة الشعر المنظوم على الطريقة الخليلية· وهذا يدلّ على إيمان جبرا المستمرّ بهذا الشكل، فهو يراه مناسباً للمضمون المتفجر الذي يودّ التعبير عنه· واستمراره على هذا الشكل من الكتابة الشعرية في مجموعاته اللاحقة يؤيّد هذا القول·
غير أن المتمعّن في شعر جبرا لا تفوته محاولاته لخلق إيقاع آخر في شعره غير إيقاع الوزن· فهو كشاعر يدرك أن الموسيقى من لوازم الشعر لكنه لا يريدها موسيقى خارجيةمبعثها الكم بل موسيقى داخلية قوامها الكيف، لأن المضمون الذي يعيه شعره هو هزّ للنفس في أغوارها· وكأن جبرا يخشى إن هو نظم كلامه موزوناً أن لا يتعدّى أثره السطح وأن يكتفي بالدغدغة الخارجية الحسيّة·
إلا أن القارى يجب أن يكون على درجة كبيرة من الإرهاف والوعي كي يتجاوب مع هذه الموسيقى ويتفاعل مع المضمون وإلا حكم على الشعر جميعاً بالغموض والتعمية· ذلك زن جبرا يكتفي بالإيماء الخاطف في خلق الصور والمعاني، وكأنه رسّام يضع الخطوط الموحية للوحته دون الأنوار والظلال المفسِّرة· بل على القارئ أن يجعل من نفسه اللوحة ذاتها ويترك للشاعر أن يلقي عليها هذه الخطوط ثم يرى ماذا أراد الشاعر·
من أجل هذا كثرت في المدار المغلق الرموز ولجأ الشاعر أحياناً إلى الأسطورة· والرمز الأول الذي يصادفنا هو البوق في القصيدة الأولى (ص 5)· فهو رمز الكذب، ورمز الضجيج الفارغ· والشاعر يفضل عليه صيحة الحنجرة لأن فيها الصدق· وقد افتتح جبرا المجموعة بهذه القصيدة وكأنه يوحي إلى القارئ أنه لن يقول له إلا الصدق· وقد وفى بوعده للقارئ في القصائد التالية، حتى إذا كاد يصل إلى نهاية المجموعة هاله الذي ما زال يجده حوله من النفاق والتفاهة، ومن اللامبالاة بما يقول: فيكتب قصيدة عنوانها رسالة إلى توفيق صايغ يقول فيها إنه ما عاد يريد أن يكتب الشع، ولمن يكتب؟
أندخل عُراةً بين جمع تسربلوا بالرقع،
أم ندخل مُرتدين الوشي والجوخ
بين جمْع من عُراة يريّلون ؟
أبين الكُسحاء ننطلق على الجياد الأصيلة ؟
ما لنا ولهم ؟ عشرين سنة ورمتُ قلبي،
نقّبتُ عيني، جرّحت حنجرتي،
أجمع الأفكار والصور وأبثّها مع هبّات الرياح
تحمل العشق مني والقلق·
ورفاقي يخزنون الدنانير لا يقلقهم
عشقٌ لشيء أو أحد· (ص 4 7 )·
هذه مأساة الشاعر الحديث: يجوع ليطعم الآخرين وهم في جوعهم يتلهّون بالتفاهات والباهة· وتنتهي المجموعة بقصيدة ما بعد الجُلجلة وفيها يعرب الشاعر عن موته الفدائي وبعثه في حياة ذات مفاهيم جديدة يظل فيها صوته يلعلع عبثاً كأنه صوت ما بل الجلجلة والموت· فيرى هذه الحياة بعد الموت عناءً كلّها، ويقول:
أغمضتُ جفني، وعلى الشفتين
بقيةٌ من عسلٍ وبقيّةٌ من علقم· (ص 8 7 )
وعلى هذه النغمة تنتهي المجموعة ويتمّ لجبرا ما أراد من تسميتها المدار المغلق فهو منذ البدء يكره البوق ويعاني القلق والتمزّق في سبيل التعبير عن الحقّ بصدق· لكنّ من يوجّه لهم شعره عامهون بتفاهاتهم، مُعرضون عنه باهتماماتهم الآنيّة· ومع هذا فهو لا يستطيع إلا أن يقول الشعر، فلا يتمثّل له إلا مداراً مغلقاً يدور فيه ويحسبه عملاً بلا جدوى أو نهاية·
ولكن يجدر بنا أن نمرّ بين بداية المجموعة ونهايتها لنعيش مع جبرا بعض التجارب التي عاناها· فنذكر قبل كلّ شيء أنه فلسطيني لجأ إلى العراق بعد النكبة، وهذه حقيقة يجب ألا ينساها القارئ لأنها في الصميم من قلب جبرا· وعلى الرغم من أن اهتمامات جبرا ليست سياسيّة بالدرجة الأولى، فإن قضيّة فلسطين قضيّة مصيريّة وتتعلّق باللحظة الحضارية المتأزّمة التي تمرّ بها الأمة العربيّة· لذلك فهو لا يستطيع أن يكتب شعراً لا يكون لفلسطين والعروبة فيه الأثر الكبير، وهو المفكر العربي الذي تعنيه شؤون حضارته ومصيرها· غير أن جبرا، كما علمت، لا يصرّح بل يوحي ويومئ لأنه فنّان وليس رجل سياسة· إنه يلمّح بلمسات خاطفة يرسم بها بحثاً عن الرمز ليهمس به بإبداع وصدق، بعيداً عن الغوغائية· إنه لا يذكر فلسطين أو الأمّة العربيّة تصريحاً، لكنها في كل صفحة من صفحات مجموعته، معاناةً عميقةً أليمةً لمشاكلها·

الصفحات