كانت الطبعة الأولى من ترجمتي لكتاب حياتي مع بيكاسو تأليف فرنسواز جيلو، وكارلتون ليك، قد صدرت في بغداد عام 3 9 9 1 عن دار المأمون للترجمة والنشر، دون إشرافي ومراجعتي، لأنني كنت مقيمة خارج العراق.
أنت هنا
قراءة كتاب حياتي مع بيكاسو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الأول
التقيت بابلو بيكاسو في شهر أيار سنة 3 4 9 1 إبان الاحتلال الألماني لفرنسا، كنت في الحادية والعشرين، وكنت قدتوصلت إلى أن فن الرسم هو كل حياتي. كنت أستضيف في ذلك الحين صديقة لي من أيام المدرسة تدعى (جنفييف)، وقدقدمت من دارها القريبة من مونبلييه، في جنوب فرنسا، لتقضي معي شهراً. وفي يوم الأربعاء من أحد الأيام، ذهبت معهالتناول العشاء في مطعم صغير يتردد عليه كثيراً الرسامون والكتّاب، وكان بصحبتنا الممثل (ألان كوني (Alan Cuni،ويقع المطعم (لو كاتالان (Le Catalan، في شارع (ديو غراند أوغسطين)، على الضفة اليسرى من النهر، بالقرب مننوتردام. وحين وصلنا إلى هناك في ذلك المساء وجلسنا، رأيت بيكاسو للمرة الأُولى، وكان يجلس على المائدة المجاورة ومعهمجموعة من الأصدقاء: رجل، لم أتعرف عليه، وامرأتان عرفت إحداهما، وهي (ماري لور Marie-Laure) فيكونتيسةنويلي، التي تملك مجموعة مهمة من اللوحات الفنية، وقد أصبحت الآن بشكل من الأشكال رسامة. في ذلك الوقت، وعلىالرغم من أنها لم تكن قد امتهنت الرسم - علنًا في الأقل - إلا أنها كانت قد أصدرت كتاباً شعريّاً صغيراً عنوانه (برجبابل). كان لها وجه طويل وضيق، يشي ببعض الانحطاط، يحيط به شعر مجعد، فذكرتني بالصورة الشخصية التي رسمها(ريجو (Rigaud للويس الرابع عشر في اللوفر.وهمس بأذني (آلان كوني) ليعلمني بأن المرأة الثانية كانت (دورا مار Dora Maar) المصورة الفوتغرافية والرسامة منأصل يوغوسلافي، وكانت، كما كان يعرف الكل، رفيقة بيكاسو منذ عام 6 3 9 1، وكان من اليسير التعرف إليها، لأننيكنت أعرف أعمال بيكاسو خير معرفة، وكان بإمكاني أن أرى أنها المرأة التي ظهرت في (الصورة الشخصية -بورتريت- لدورا مار) في أشكالها الكثيرة والمتنوعة. كان لها وجه بيضوي الشكل جميل، ولكن بفك ضخم، غدا سمةكادت تطغى على جميع الصور الشخصية التي رسمها لها بيكاسو. كان شعرها أسود مربوطًا إلى الوراء بتسريحة بالغةالحدة، وقد لاحظت عينيها النفاذتين بلونهما الأخضر البرونزي، ويديها الرشيقتين وأصابعها الشمعية الطويلة. وأكثر ماأثار إعجابي بها سكونها الخارق، فهي لم تتحدث إلا قليلا، ولم تصدر عنها أية حركة على الإطلاق، وكان في هيئتها شيءيفوق الرصانة - هو نوع من الجمود، وقد ينطبق عليها المثل الفرنسي: كانت لها هيئة قربان مقدس.وفوجئت بعض الشيء بمظهر بيكاسو، فقد كان انطباعي عن الصورة التي يجب أن يكون عليها، قائمًا على صورةفوتوغرافية بعدسة (مان راي Man Ray ) نشرت في العدد الخاص عن بيكاسو، الذي أصدرته المجلة الفنية (دفاتر الفن(Cahiers d'Art في عام 6 3 9 1: شعر غامق، وعينان براقتان نابضتان، وجذع مربع قوي البنية - حيوان جميل.أما الآن فإن شعره الأشيب ونظرته المغيبة - التي تبدو مشتتّة أو ملولة - قد أعطياه مظهراً شرقياً انطوائيًا، ذكرني بمنحوتة(الناسخ) المصرية في اللوفر. لم يكن ثمة ما هو نحتيّ أو ثابت في سلوكه حين يتحرك، ومع ذلك فقد أومأ، التوى والتفت،نهض وتحرك بسرعة إلى الوراء وإلى الأمام.لاحظت أن بيكاسو كان يراقبنا في أثناء تناولنا وجبة الطعام، ويحاول أن يلفت انتباهنا بين حين وآخر، وكان من الواضحأنه قد عرف (كوني)، ونبّت عنه بعض الملاحظات التي كان يعتقد بأنها لابد أن تصل إلى أسماعنا بوضوح، وكان كلماقال شيئاً، خاصة إذا كان مسلياً، يبتسم لنا لا لرفقاء عشائه فقط. وأخيراً نهض من مكانه وتوجه إلى مائدتنا، وقد حمل معهصحناً من الكرز، قدم لنا منه، وهو يقول بصوت هادىء (سيريس cerisse) وكان ينطق بلكنة إسبانية، مشددًا علىحرف السين.كانت (جنفييف) فتاة جميلة، من سلالة كاتلانية فرنسية، ولكنها كانت ذات طابع إغريقي، وكان أنفها امتدادًا مباشرًالجبهتها، وقد أخبرني بيكاسو، فيما بعد، إنه شعر وكأنه قد رسمها من قبل في لوحاته التي تعود إلى المرحلة(الأنغرية Ingresque ) أو الرومانية، وغالباً ما كانت (جنفييف) تؤكد تلك السمة الإغريقية، كما فعلت في ذلكالمساء بارتدائها ثوباً فضفاضاً كثير الطيات.قال بيكاسو: حسن يا (كوني)، ألا تعرّفني بأصدقائك؟.قام (كوني) بتقديمنا، ثم قال: فرنسواز هي الذكية بينهما، وقال مشيراً إلى (جنفييف)، وهي الجميلة بينهما، ألا تبدو تماماًمثل تمثال رخام إغريقي؟هز بيكاسو كتفيه وقال: إنك تتحدث مثل ممثل، كيف يسعك أن تشخّص الإنسان الذكي؟كنت أرتدي، في ذلك المساء، ربطة خضراء في شعري غطت جزءاً كبيراً من جبيني وخديّ، فردت عليه جنفييف قائلة:فرنسواز عذراء فلورنسية. وأضاف كوني: ولكنها مختلفة، فهي عذراء علمانية وضحك الجميع.وقال بيكاسو: إذا لم تكن من النوع المألوف، فإن ذلك يجعلها أكثر إثارة للاهتمام، ولكن ماذا تعمل صاحبتاك اللاجئتان منتاريخ الفن؟أجابت جنفييف: نحن رسامتانانفجر بيكاسو بالضحك، وقال: هذا من أكثر ما سمعت اليوم إضحاكاً، فتيات بهذا المظهر لا يمكن أن يكن رسامات. فقلتله إن جنفييف كانت في عطلة في باريس، وإنها كانت تلميذة مايول (Maillol) في (بانيول Banyuls)، وإنه على الرغممن أنني لم أكن تلميذة أحد، إلا أنني كنت رسامة، ولدينا في الواقع معرض مشترك للرسم والتخطيطات، يقام الآن، فيصالة تقع في شارع (بواسي دانكلاس) خلف (بلاس دو لاكونكورد).تطلع إلينا بيكاسو من الأعلى في دهشة ساخرة: حسن، أنا رسام أيضاً، وعليكما أن تأتيا إلى مشغلي وتريا بعضاً منلوحاتي.
تساءلت: متى؟
غداً، بعد غد، متى شئتما.
تبادلنا أنا وجنفييف الإشارات، ثم قلنا له ربما لا نأتي غداً أو بعد غد، ولكن قد نأتي في مطلع الأسبوع القادم. انحنى بيكاسوقائلاً: كما تشاءان. صافحنا جميعاً، وتناول إناء الكرز وعاد إلى مائدته.كنا ما نزال جالسين على مائدتنا حين غادر بيكاسو وأصدقاؤه المكان، كان المساء بارداً، وكان يرتدي معطفاً سميكاً ضدالمطر، ويضع على رأسه قبعة صوفية (بيريه)، وكانت (دورا مار) ترتدي معطفاً من الفراء، بكتفين مربعتين، وحذاء منالطراز الذي كانت ترتديه الكثيرات من الفتيات خلال سنوات الاحتلال، حين كان الجلد نادرًا، كشأن أشياء كثيرة أخرى،وكان ذا نعل خشبـي وكعــب عالٍ. لقد بدت بالكعب العالي والكتفين المبطنتين، والهيئة الكهنوتية، ملكة أمزونية، قامتهاأطول من قامة الرجل ذي المعطف المشمّع القصير والقبّعة الصوفية.