كانت الطبعة الأولى من ترجمتي لكتاب حياتي مع بيكاسو تأليف فرنسواز جيلو، وكارلتون ليك، قد صدرت في بغداد عام 3 9 9 1 عن دار المأمون للترجمة والنشر، دون إشرافي ومراجعتي، لأنني كنت مقيمة خارج العراق.
أنت هنا
قراءة كتاب حياتي مع بيكاسو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في ذلك الصيف، غادرت إلى قرية صغيرة تدعى (فونيتس) قرب (مونبلييه)، وكانت ضمن المنطقة الحرة آنذاك - غيرمحتلة من قبل الألمان - وذلك لقضاء إجازتي مع جنفييف، وفي أثناء وجودي هناك مررت بإحدى تلك الأزمات التي يمربها الشباب أحياناً وهم في طور النمو. لم يكن بيكاسو سبب الأزمة، فقد كانت مثل هذه الأزمات تعاودني بين حين وآخر،قبل الالتقاء به. وكانت نوعاً من المراجعة العقلية التي يحدثها الصراع ما بين حياتي التي انتهجتها حتى ذلك الوقت،والرؤية التي كانت لدي عن الحياة التي ينبغي لي التوجه نحوها.منذ طفولتي المبكرة كنت أعاني من الأرق، فأستغل الليالي بالقراءة أكثر مما أستغلها بالنوم، وبما أنني كنت قارئة سريعة،فقد استطعت أن آتي على عدد كبير من الكتب، وشجعني والدي على هذا التوجه. وكان أبي مهندساً زراعياً، اكتسب مهنته
بالتدريب، وبنى عدة مصانع تجارية لإنتاج المواد الكيمياوية، وكان أيضاً معنيًا بالأدب شغوفًا به، ولم يغلق مكتبته الواسعةأمامي قط. وحين بلغت الثانية عشرة كان قد قرأ لي قدراً كبيراً من الأعمال الأدبية الموجهة للأحداث مثل:(جوانفيل Joinville) و (فيّون Villon) و (رابليه Rabelais) و (و Poe ) و (بودلير Baudelaire)، وحـــينبلغت الرابعة عشرة قرأت كل (جاريJarry)، وفي السابعة عشرة كنت فخورة جداً بما حصلت عليه من معرفة، ومغرمةبالتخيل بأنني على دراية بأمور الحياة في كل جوانبها، على الرغم من أن معرفتي لم تأت إلا من خلال ما قرأته فيالكتب.
ولم أكن معنية جدا بمظهري الجسدي، كما لم أكن أراه معوّقًا، ولم أخش من شيء. كنت موضوعية، ومجردة في كلأحكامي، ومتحررة من شتى الأوهام التي تخامر الشباب لقلة تجربتهم، وباختصار، كنت أعتقد بأنني فيلسوفة محنكة،متنكرة بشكل فتاة صغيرة.حاول أبي أن يوقظني بقوله: إنك تعومين في الهواء، ومن الأفضل لك أن تضعي في قدميك حذاء من رصاص وتهبطيإلى الأرض، وإلاّ فلا مناص لك من صحوة قاسية، وجاءت تلك الصحوة حين قررت أن أصبح رسامة. في بداية الأمركان لدي إحساس بأن قدراتي محدودة، فأنا لم أواجه في دراساتي أية متاعب، حتى في المجالات التي لم تكن موضعاهتمامي كالرياضيات والقانون، غير أنني، حين اخترت الرسم، وبغض النظر عن أنني اخترت طريقي بنفسي، فقدتوصلت تدريجياً إلى أن أدرك عجزي عن تحقيق بعض الأمور. وواجهتني شتى المصاعب الذهنية والتقنية، وشعرت لمدةطويلة بأنني كنت أصطدم بجدار، ثم شعرت بأن جزءاً كبيراً من مشاكلي كان نتيجة تجربتي القليلة في الحياة. لقداستوعب ذهني أمورًا كثيرة، غير أنني في مجال التجربة العملية، أكاد أكون جاهلة جهلا كليًا.بدأت أرسم حين كنت في السابعة عشرة، وخلال السنتين الأخيرتين كنت أعمل تحت إرشاد رسام هنغاري يدعى(روزدا Rozsda)، وكنت في الوقت نفسه أدرس في السوربون للحصول على درجة الليسانس في الأدب (وهي معادلةللبكالوريوس تقريباً في الجامعات الأمريكية والإنكليزية)، وكنت أسعى أيضًا للحصول على درجة في القانون. ولم يسمحلي والدي بالتخلي عن الدراسة الجامعية وإعطاء وقتي كله للرسم، غير أنني كنت أقطع حصصي الصباحية، وأذهب إلىمشغل (روزدا) لأرسم.كان (روزدا) قد قدم إلى باريس من بودابست عام 8 3 9 1، وكانت أمه يهودية، فكان ينبغي له، بموجب قانونالاحتلال، أن يضع نجمة داود صفراء على ثيابه، ولأنه لم يضعها فقد كان يتمتع بحرية أكبر في التنقل، ولكنها كانتمجازفة كبيرة منه. وبما أن هنغاريا كانت تابعة لألمانيا، فقد كان على (روزدا) أيضًا أن يخضع للخدمة العسكرية النازية،وهذا لم يجعله يهودياً غير معلن وحسب، ولكنّه، من وجهة نظرهم، كان هارباً من الجندية أيضاً، وبذلك، كان معرضًالإرساله إلى غرف الغاز بتهمة مضاعفة، كان يواجه خطر انكشاف أمره بين يوم وآخر. كان بوسع أبي أن يكون قاسياًكالمسمار عندما تحبط إرادته، وكان بوسعه أيضاً أن يكون شديد الكرم حين يريد، وعندما أخبرته عن موقف (روزدا)،ساعده بالحصول على أوراق يمكن أن تعيده بأمان إلى بودابست. وحين غادر في شباط 3 4 9 1، ذهبت لوداعه إلى محطة القطار الشرقية، وأحزنني سفره لأنه كان صديقاً طيباً، كما كنتتعيسة لاعتقادي بأن سفره سيؤثر على التقدم الذي كنت أحرزه في الرسم، وقلت له إنني لم أكن أدري ما أفعل بشأن ذلكالأمر ، أو مع من أستطيع أن أعمل. وعندما أوشك القطار أن يغادر، وثب إليه وقال بصوت عالٍ: لا تقلقي فقد تتعرفينعلى بيكاسو في غضون ثلاثة أشهر. وكان على صواب إلى حد معرفة اليوم تقريباً.لم تكن مشاكلي مع الرسم المصدر الوحيد لما كنت أشعر به من إحباط، فخلال السنتين أو الثلاث التي انتهت بي إلى لقاءبيكاسو، كان معظم أصدقائي من الذكور يكبروني بعشر سنوات، وكان الكثير منهم أعضاء ناشطين في حركة المقاومةبشكل أو بآخر، وأعتقد بأنني كنت في نظرهم مجرد طفلة. ولعل ذلك ما دعاهم يتركونني وحيدة، وعلى الرغم من أنه لميكن لديّ اعتقاد بالقصص الديني التي سمعتها من راهبات الدومينيكان عن الجن، خلال إقامتي في القسم الداخلي للمدرسة،كما لم يستطعن إقناعي بأنها حقيقة، ، إلاّ أنني أعتقد، مع ذلك، بإن جزءاً منها ظل يردعني، فأنا لم أكن مقتنعة بوجوبإيماني بقصصهن، كما لم أكن واثقة من عدم إيماني بها.ما بين سن السابعة عشرة والعشرين من عمري، كنت مغرمة جداً بصبي في مثل سني، ويعاني ما أعاني من مشاكل تلكالمرحلة، وكنت أشعر في كل مرة بأن الاستسلام له كان أمراً مقبولاً، وكان يشعر بالحرج، وحين يمتلك جرأة أكبر، أكونأنا في ريبة. وأصيب ذات يوم بالالتهاب الرئوي، وكان والديّ آنذاك يحاولان التفريق بيننا، وحين ذهب لقضاء فترة النقاهةقررت أن أتجاوز ذلك العائق المسمى بالعذرية، وعندما عاد، لا بد أنني أخفته وأفقدته صوابه بسبب سلوكي الهجومي معه،ونتيجة لذلك صارحني بأنه لم يكن يحبني حقاً، وإن من الأفضل لي أن أُخرجه من حياتي.وبدلاً من أن أُدرك بأن أمامي متسعاً من الحياة، شعرت بأن الزمن كان يقصر، فقد بالغت من مدى تأثير هذا الرفض الأولإلى الحد الذي دعاني إلى التساؤل: هل بقي ما له أهمية لدي؟ لقد ذهب معلمي (روزدا)، وهجرني الفتى الذي أحببت، ولميعد لدي ما أخسر. كنت على ذلك الحال عندما التقيت بيكاسو، وبعد المناوشات القصيرة في أيار وحزيران، حين ذهبتإلى (ميدي) لقضاء الصيف مع جنفييف، كنت ما أزال مضطربة من جراء كل ما مر بي قبل لقائي به. كان والدايشريرين في نظري، وجل ما توصلت إليه من رأي، هو: أن كليهما أفسدا حياتي، وأنني بدءًا من الآن، سأتولى أمر نفسيبنفسي.كانت الخطوة الأُولى، كما بدا لي، مواجهة أبي وإخباره بقراري بأن أصبح رسامة، ومن أجل أن أمنح نفسي كلياً للرسم،فإنني أحتاج إلى التوقف عن دروسي الأخرى، ولأنني أعرف كم كانت إرادة أبي قوية، فقد أدركت بأن إعلانًا كهذاسيؤدي إلى القطيعة بيننا، ولكنني شعرت بأنني بتحملي للنتائج، سأجد نفسي في الجانب الآخر من الجدار الذي فصلنيحتّى الآن عن أي شيء أردته.كنت حتى ذلك الحين، مغلفة بالشرنقة التي كونها حولي وسطي الاجتماعيّ، وكان لدي انطباع بأن أصوات الحياة كانتتصل إليّ خافتة إلى حد أن علاقتي مع الواقع كانت مستنفدة، ولكنني كنت أعلم بأن الفنان يغرف من تجربته المباشرة فيالحياة، مهما كانت قيمة رؤيته التي يدخلها إلى العمل، وأنه كان عليّ أن أخرج من الشرنقة، وأعتقد أن هذه كانت أكبرأزمة عقلية ثقافية مرت بي، بل كادت تكون ولادة ثانية، وحين عزمت على الأمر أحسست بأنني عارية كعريي يوم ولدت.في شهر تشرين الأول، كتبت لأبي رسالة حاولت أن أشرح فيها كل ذلك، وكان ردّه أن أرسل أمي، التي كانت مثلي دائماًتحت سيطرته، لتعيدني إلى باريس حالاً. وحين وصلنا إلى الدار، كان في انتظارنا يشتعل غضباً، فقال لي: إنّ تصرفيكان مشيناً، ولا بد أنني فقدت صوابي، وإذا بقيت متشبثةبموقفي، فسيدرك بأنني مريضة مرضاً جدياً، وسيضعني تحتالرعاية، قال ذلك مهدداً. أمهلني نصف ساعة لأغير رأيي، وخرج في مهمة قصيرة الأمد. كان عليّ أن أتصرف بسرعة،فغادرت الدار دون أن أقول لأمي أي شيء، وهرعت إلى دار جدتي التي لم تكن بعيدة عن دارنا. كانت جدتي خارج الدار،وقررت أن أنتظرها حتى تعود، وبعد دقائق قليلة وصل أبي وأمي. لا بد أن أمي الآن قد اقتنعت هي الأخرى بأنني فقدتصوابي. كنت لغاية ذلك اليوم مطيعة له دائمًا ، وعلى الرغم مما عانيت من ألم من جراء هذه الطاعة، فقد أصبحت وأنافي الحادية والعشرين، وعلى حين غفلة، صلبة صلابة أبي.حين رأيتهما قادمين هرعت إلى الطابق العلوي، ولمعرفتي بالمزاج الذي كان عليه أبي فقد كنت على يقين من أنه سيحاولأن يجرني إلى الخارج، ويعيدني إلى البيت، ولو ابتعدت قدر الإمكان عن الباب الأمامي، فقد يجد بعض الصعوبة فيسحبي . ولكنه لحق بي إلى الأعلى، ولم أره قط على ذلك الحال من الغضب. كان عنيفاً دائمًا، وكان معتاداً على أن يجعلكل شخص - في البيت وبين بقية أفراد العائلة، وفي معمله، وفي العالم - يطيعه مباشرة. سألني إن كنت أريد العودة إلىالبيت، فقلت لا، وقلت له إنني عزمت أمري، فإن لم يوافق على شروطي، سأترك الدار، وقلت له إنني لن أطلب منه أيشيء، وقررت منذ الآن أن أعيش حياتي كما أراها ملائمة لي.بدأ يضربني بكل ما أوتي من قوة، ضرب رأسي وكتفيّ، ووجهي، وظهري، كان أكبر حجماً مني وأقوى بكثير، وكنتأعرف بأنه لم يكن بوسعي الصمود أمامه لو استمر على ذلك. جلست على السلم، واستطعت أن أمد ساقيّ من بين أعمدةالدرابزين، فأدخلت ذراعيّ بينهما وشبكت كفيّ معاً. تلك الطريقة حميت وجهي من اللطمات، فقد كان وجهي ينزف بشدة،والدم يسيل عليّ من بين الأعمدة ويسقط فوق ركبتي، كنت أشعر بأن إحدى عينيّ تورمت، ثم حاول أن يجرني بعيداً،ولكنني تشبثت بقوة. في تلك اللحظة سمعت الباب يفتح في الأسفل، ودخلت جدتي، فأسرعت إلى الطابق العلوي، وسألت أبي عما يجري،فأخبرها أن كل ما تراه كان من صنع يدي. قلت لها إن ذلك ليس صحيحاً، فقالت إنها في موقف لا يسمح لها بالوصول إلىأي رأي، وكان من الواضح أنني كنت في حالة يرثى لها، فوضعتني في السرير، وذهبت لتستدعي الطبيب فوراً، وقالتله: سننظر في الأمر غداً.كانت جدتي آنذاك في الخامسة والسبعين، وبعد وفاة جدّي، أي قبل أربع سنوات من ذلك التاريخ، أصيبت بانهيار عصبي،وأمضت ما يقرب من ثلاث سنوات في مصح، ومنذ حوالي سنة عادت إلى دارها بعد أن استرجعت عافيتها. كانت والدةأمي، وكانت لها ثروتها الخاصة بها، ولم تكن محتاجة ماديًا لأبي. وبسبب ما جرى ، كانت أموالها تدار من قبل مُحامٍ كانصديقاً لأبي وطوع بنانه إلى حد ما، وقد استغل أبي حالتها ليشملها بتهديداته. قال: سأضعكما معًا تحت الوصاية، فكلاكمامجنونتان: وستجدان أن النقود لن تصل إليكما بهذه السهولة بعد الآن،وسنرى كيف تواجهان الأمر.فانبرت له جدتي، وقالت: امض بما تريد، وحاول ردعنا بكل ما أوتيت من وسائل، وأود أن أرى كيف تنجو من فعلك هذا،ومنذ الآن ستبقى فرنسواز معي إن شاءت ذلك، بل إنها ستخضع فعلا للفحص النفسي طوعاً، لمجرد مساعدتك علىتحقيق ما تريد.للحكم على حالة من حالات الجنون، وقبل التمكن من إخضاع أي شخص إلى المؤسسات الصحية، لابد، بمقتضى القانونالفرنسي، من توفير شهادتين متطابقين لطبيبين نفسانيين مستقلين. وقد أظهرت نتائج الفحص الذي أجراه عليّ أول طبيباستدعاه أبي، بأن قدرتي على الأداء كانت أقل من المعدل الطبيعي بنسبة ثلاثين بالمائة، وذلك ما دعاه إلى أن يستنتجبأنني كنت أعاني من الإرهاق الشديد. وبعد هذه الخيبة الفاضحة، عثر أبي على طبيبة نفسانية لم أدر إن كانت مقتنعة حقاًبقصة جنوني، أو كان لديها تعليمات من أجل أن تبين بأنها وصلت إلى هذه القناعة من خلال الحديث معي. فقد أمضتمعي ساعتين، كانت تختبرني خلالهما، وتتهجم عليّ وتهددني، من دون أن تحصل على أية نتيجة. وخضعت لبضعجلسات أخرى كان أبي قد خططها لفحصي، من ضمنها جلسة مع ابن عم له، وكنت بعد كل فحص أشعر بهدوء أكثر وبثقةأكبر بما اتخذته من قرار، حتى بلغ فصل تعذيبي نهايته.