كانت الطبعة الأولى من ترجمتي لكتاب حياتي مع بيكاسو تأليف فرنسواز جيلو، وكارلتون ليك، قد صدرت في بغداد عام 3 9 9 1 عن دار المأمون للترجمة والنشر، دون إشرافي ومراجعتي، لأنني كنت مقيمة خارج العراق.
أنت هنا
قراءة كتاب حياتي مع بيكاسو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حسن قال بيكاسو اذهبا إلى هناك واجلبا لي عصا مكنسة. بدا الاثنان مرتبكين بعض الشيء، غير أنهما في النهاية خرجاوعادا بواحدة، فتناولها بيكاسو وقال لهما: عودا بعد يومين. سأصنع منها شيئاً.بعد مغادرتهما، أخذ قضيباً حديدياً يستخدم مسعرًا للنار، ثم سخنه في موقده الكبير، وأحرق الزخرفة البدائية المحفورة علىطول العصا. سألته عما إذا لم تكن العصا طويلة جداً، فأجاب: ذلك ما سيمنع (جانوت) من أن يتعثر بعباءته الساحرةالأرجوانية ذات الخمس عشرة قدماً، وبوسعه أن يتكئ عليها أيضاً. وفي موعد الافتتاح، لم يكن بيكاسو راغبًا بالذهاب، ولا برؤية (جانوت) وهو يشهر صولجانه الذي صنعه له،لذلك أعطاني بطاقة الدعوة. وكان من المتوقع أن ترتدي النساء ثيابًا محتشمة من الأعلى إلى الأسفل، والرجال يتنقلونبمرح مثل (جرذان الأوبرا)، ويرتدون تنورات قصيرة تكشف عن سيقانهم وبطونهم إلى أقصى حد.وكانت أعمدة القصر السود من أكثر المشاهد إمتاعًا في المسرحية ، فكلما اتكأ (بيروس) على أحدِها، تلطخت كفه بالدهانالمائي الرخيص، وحين كان عليه أن يعانق أندروماك، في أحد المشاهد الدرامية، ترك طبعة من ذلك الدهان على ثوبهاالأبيض الفضفاض. وبعد وقت قصير لم تعد تبدو إغريقية بقدر ما بدت شخصية ثورية، فزعق المتفرجون، وسرعان مابدأوا يصفرون ويطلقون هسيساً ودوياً. أعتقد أن المسرحية توقفت بعد ثلاثة أيام.كان المصور الفوتغرافي (براساي Brassai) واحداً من الشخصيات الأخرى التي اعتادت التردد على المشغل، وقد كانيأتي عادة لتصوير منحوتات بيكاسو. كان بيكاسو يجد متعة في استفزازه، وكان دائماً يبادره بالتحية بقوله: وماذا ستدمرلي اليوم؟ كان براساي كثير التعرض للحوادث، وإن ملاحظة بسيطة كهذه كانت كافية لردعه. في ذلك الحين كان بيكاسويعمل على منحوتة القطة الحامل بذيلها البارز خلفها بصلابة، وحين كان براساي ينصب قاعدة كاميرته الفوتغرافية، قال لهبيكاسو: بحق السماء لا تقترب من ذلك الذيل، فتسقطه. فانسحب براساي مطيعًا ليبتعد عن القطة، ثم سحب القاعدة، وقامبحركة جانبية، فكسر ذيل القطة. وفي الوقت الذي تمكن فيه من إخراج نفسه من المنحوته، بدأ يسحب قاعدته نحوها، فقالله بيكاسو: من الأفضل أن تتوقف عن سحب هذه القاعدة، وأن تسحب عينيك منها ولم يكن تعليقًا رفيقًا، لأن براساي كانيعاني من حالة ما - الغدة الدرقية ربما - مما جعل عينيه تجحظان خارج رأسه، غير أني استطعت أن أرى منذ البداية أنهلا أحد يمضي غاضباً من سخريات بيكاسو. دأ (براساي) يضحك بقوة، إما لأنه وجد الأمر مضحكاً أو لأنه ظن أنه كان لابدّ أن يضحك، مما جعل ساقيه تشتبكان بأرجل القاعدة، وسقط إلى الوراء داخل حوض كبير مليئ بالماء، كان بيكاسويحتفظ به في المشغل من أجل (كاسبك) :كلبه الأفغاني. وما أن سقط (براساي) حتى تتناثر الماء وبلل كل الموجودين،وكان ذلك كافياً لوضع بيكاسو في مزاج حسن طوال ذلك الصباح:وقد أخبرني بيكاسوفيما بعد: إذا لم يكن لدي زوار في الصباح، فلن يكون لديّ عمل بعد الظهر، لأن هـــذه اللقاءات هيإحدى الوسائل لشحن بطاريتي، حتى وإن لم يكن للزيارة علاقة مباشرة بعملي، إنها مثل شعلة الكبريت، تضيء لي نهاريكله.ولكن لم يكن كل زوار بيكاسو ممن يرحب بهم، فقد منع الألمان عرض أعماله في أي مكان، لأنه كان في نظرهم فناناًمنحطاً بل أسوأ من ذلك، كان عدواً لحكومة (فرانكو)، وكانوا أبداً يبحثون عن حجج لإثارة المشاكل معه. وكان كل أسبوعأو أسبوعين يأتي عدد من الألمان بزيهم العسكري، ويسألون بلهجة منذرة بالشر: أليس هذا مسكن السيد (ليبجتز)؟ وكانسابارتيه يرد: كلا، هنا مسكن السيد بيكاسو. فيقولون: آه، لا. نحن نعرف بأن هذه هي شقة السيد ليبجتز. فيرد سابارتيهقائلا: لا، إنها شقة السيد بيكاسو. فيقولون أليس السيد بيكاسو يهودياً؟فيرد سابارتيه: طبعاً لا. ، ولأنّ تحديد كون الشخص آرياً أو ليس آرياً يتم على أساس شهادة تعميد الجدين، فإنّه لم يكنبوسع أحد أن يقول إن بيكاسو كان يهودياً. ولكنهم كانوا يأتون في كل الأحوال ويقولون إنهم جاءوا يبحثون عن النحات(ليبجتز)، مع أنهم يعرفون جيداً أنه كان في أميركا آنذاك، وأنه لم يسكن قط في ذلك المكان، غير أنهم كانوا يدعون بأنعليهم أن يتأكدوا بأنفسهم من أنه لم يكن هناك، ولذلك كانوا يقولون: نريد أن نتأكد، وإننا سندخل لنبحث عنبعض الأوراق. ويدخل ثلاثة منهم أو أربعة مع ضابط في منتهى الأدب يتحدث الفرنسية. كانت الفوضى التي تعم كلمكان تثير فضولهم، وكانوا يبحثون حول كل شيء وخلف كل شيء.كان بيكاسو قد تعرض إلى تحرشات الألمان قبل أن أعرفه، وقد أخبرني بذلك في يوم ما بارتياح كبير. فمن الأمور التيأقدم عليها الألمان في عام 0 4 9 1، بعد الهدنة مباشرة، جَرْدُ الموجودات المودعة في أقبية المصارف، وكانت ممتلكاتاليهود تصادر، أما ممتلكات الآخرين فكانت تثبت في سجل لتكون جاهزة قيد الطلب، وكانت السندات والأسهم الأجنبيةوالمجوهرات والأعمال الفنية الثمينة موضع اهتمام الألمان أكثر من أي شيء آخر.وما إن بدأ الجرد، حتى سارع أغلب الناس، الذين كانوا خارج باريس بالعودة إليها، ليكونوا حاضرين لدى فتح صناديقهمأو أقبيتهم، وقد أدرك كل منهم في البداية، قبل أن يصل الفنيون الخبراء من ألمانيا، بأن التعامل معها سيكون عشوائياً إلىحد ما، من قبل الجنود المحتلين، وبذلك فقد تكون لديهم فرصة حماية ممتلكاتهم الثمينة، وذلك ما قامت به عائلتي، وبيكاسوأيضاً، كما علمت فيما بعد. وكان بيكاسو يعنى بإداعاته الخاصة، كما كان يُعنى بممتلكات ماتيس كذلك.كان ماتيس قد أجرى عملية خطيرة في بطنه، وكان قد ذهب للعيش في جنوب فرنسا، وكانت لوحاته مخزونة في قبوملاصق لأقبية بيكاسو في المركز الرئيسي للمصرف الوطني للتجارة والصناعة(B.N.C.I.) ، وحين فتحت أقبية بيكاسواشترط عليهم أن يكون موجوداً هناك. كانت هناك ثلاث غرف كبيرة مليئة باللوحات في سرداب المصرف: اثنتان تعودانله والأخرى لماتيس. كان مدير المصرف صديقاً لكليهما، ولأن بيكاسو كان إسبانياً، فقد كان من الصعب على الألمان أنيقتربوا من ممتلكاته لو كانت أوراقه نظامية، ولكن بما أنه كان شخصًا غير مرغوب به (Persona non grata) منقبل نظام (فرانكو)، فإن وضعه كان معرضًا للخطر، كما أنه و (ماتيس) كانا من صنف الفنانين المنحطين، من وجهةنظر النازيين، فقد كان متوجساً لأسباب كثيرة. كان المفتشان جنديين ألمانيين نظاميين جدًا، ولكنهما لم يكونا ذكيين كماأخبرني، وكان قد أربكهما جداً، فكان يقودهما بسرعة من غرفةلأخرى، فيسحب اللوحات ويتفحصها ثم يعيدها ثانية إلىمكانها، ويقود الجنديين حول الزوايا، ويدور دورات غير منتظمة، حتى أصبحا في نهاية الأمر كتائهين في عرض البحر.ولأنهما لم يكونا قد ألفا عمله أو عمل ماتيس، فلم يدركا ما كانا ينظران إليه بغض النظر عن الغرفة التي كانا فيها. كان قد
استعرض، خلال عملية الجرد، ثلث لوحاته فقط، وحين جاء إلى أعمال ماتيس قال: آه، لقد رأينا هذا. ومن غير أن يفرقابين لوحة وأخرى، سألاه عن قيمة هذه اللوحات جميعها، فقال لهما إنها تساوي (0 0 8 ) فرنك، أي ما يعادل (0 7 5 )باونداً اليوم لكل لوحاته، ومثلها للوحات ماتيس، فصدقاه، ولم يأخذا أياً من أعماله أو أعمال ماتيس إلى الخارج، لا بد أنهالم تبد لهما ذات قيمة.قال: يقيم الألمان دائماً اعتبارًا للسلطة، بغض النظر عن طبيعة هذه السلطة، ولأنني في واقع الأمر شخص معروف لدىالكل، وإنني قدمت لهم تفاصيل دقيقة عن أحجام الأعمال وأسعارها وتواريخها، فقد ترك لديهم كل ذلك انطباعاً جيداً جداً،ومن غير المتصور لديهم أن يدلي أي إنسان بمعلومات قد تكلفه غالياً لو تبين لهم أنها غير صحيحة.كان ثمة شك كافكائيّ يحيط ببعض الأشخاص الذين يترددون على مشغل بيكاسو في تلك الأيام، كان أحدهم مؤرخ فنٍمشكوكاً به إلى حد ما، ومصوراً فوتغرافياً كان يأتي من وقت إلى آخر بمهمات غامضة. وقد ظن بيكاسو بأن هؤلاء كانوا
جواسيس، غير أنه لم يكن لديه ما يثبت ذلك، كما لم يكن لديه أي سبب لرفض وجودهم هناك، وما كان يخشاه هو أن يأتياليوم الذي يقوم فيه أحد هؤلاء الألمان المريبين - المصور، مثلاً، الذي كان يتردد أكثر من غيره - بزرع أوراق تدينه،بحيث إذا حضر الجستابو في المرة التالية للتفتيش فإنهم قد يجدون شيئاً ما.
لقد تطلب بقاؤه هناك في أثناء الحرب شجاعة كبيرة جداً بعد أن أعلن هتلر عن رفضه للوحاته، وبعد أن وقفت سلطاتالاحتلال هذا الموقف القاتم من المثقفين،وكان العديد من الفنانين والكتّاب - ليجيه، أندريه بريتون، ماكس إرنست، أندريهماسون، زادكين وغيرهم - قد رحلوا إلى أمريكا قبل وصول الألمان، ولا بد أن كثيرًا منهم قد رأى أنه من الحكمة عدمالتعرض لخطر البقاء، وقد سألت بيكاسو ذات يوم عن سبب بقائه:فقال: إنني لا أجازف، وقد لا يهمني أن أكون على جانب من السلبية، وأخضع للقوة أو الإرهاب. أريد أن أبقى هنا لأننيموجود هنا، والقوة الوحيدة التي تجبرني على الرحيل ستكون الرغبة في الرحيل، وبقائي هنا ليس دليلا على الشجاعة،وإنما هو شكل من أشكال البطالة. أعتقد أني أفضّل أن أكون هنا فقط مهما كان الثمن.