اجتاحت المجتمع الانساني ، خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين تحولات كبرى بلغ من عمقها واتساع نطاقها ، ما يجعلها جديرة بوصف " الثورة العالمية " وبخاصة بعد ان امتدت اثارها لتطال كل اوجه الحياة وعناصرها ، محدثة فيها تغيرات جذرية شاملة .
أنت هنا
قراءة كتاب المجتمع المدني والديمقراطية - مقاربة تحليلية في ضوء التجربتين السياسيتين الغربية والعربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المجتمع المدني والديمقراطية - مقاربة تحليلية في ضوء التجربتين السياسيتين الغربية والعربية
واذا كان تعدد اشكال النظم السياسية وتنوع خصائصها واختلاف مسمياتها، مبعثاً للارتباك او صعوبة الفهم ، فلا احد يتحمل مسؤولية ذلك لان اختلاف المجتمعات وتباينها يضطرها اصلاً لانتاج نماذج مختلفة من الانظمة السياسية تناسبها وتتناسب معها ، حتى وان كانـت تستخدمهـا لاهـداف متماثلة .
ومن بين الاشكال المختلفة للسلطة السياسية ، فأن الدولة تعود بنشأتها الى التطورات الحضارية الكبرى في اوربا العصر الحديث ، وما نتج عنها من تحولات امتدت اثارها الى كل عناصر الحياة الغربية ومستوياتها وابعادها ، وهو ما بدأ منذ ق 15 ، ثم تسارعت وتائره خلال القرون اللاحقة ليبلغ ذروته مع ظهور نموذج الدولة القومية في اوربا اواخر ق 18 .حيث كانت أوروبا ومستعمراتها
في تلك الحقبة بوتقة اجتماعية تفاعلت فيها وفي آن واحد شتى العوامل :-
- السياسية : صراع السلطة المركزية مع الامراء الاقطاعيين وامراء الكنيسة
- الاقتصادية : صراع البرجوازية مع الاقطاع .
- الاجتماعية : صراع العامة مع سلطة الملوك المطلقة والمقدسة ، وسلطة الاقطاع والكنيسة .
- الفكرية : صراع الجديد مع القديم والعلم مع الموروث ، وعصر الانوار والاصلاح الكنسي ، ودعوات حقوق الانسان والحريات الفردية والعامة، والاسس المدنية للقانون والسلطة ، وفصل الدين عن السياسة ونظريات القومية السياسية وسيادة الامة والسيادة الشعبية .
وكانت المحصلة الكلية لتفاعل هذه العوامل والصراعات التي انتجتها ونتجت عنها ، هي ظهور "الدولة " كشكل مستحدث لممارسة السلطة السياسية وتنظيمها . وفقا لتلك النتائج وبما يستجيب لدواعيها ، الامر الذي يعني مساهمة العديد من القوى الاجتماعية في اقامة هذه " الدولة "، قوىكانت كل منها تعمل من اجل اهداف ومقاصد تختلف عن اهداف القوى الاجتماعية الاخرى ومقاصدها .
فالارستقراطية كانت تبحث عن سلطة قادرة على ضمان حقوقها واوضاعها المتفوقة، وحمايتها من بعضها ومن المدن وبرجوازيتها المتنامية . والبرجوازية كانت تبحث عن سلطة قادرة على دعم قدراتها المتنامية باستمرار ومساندتها فى صراعها مع السادة الارستقراطيين للتحرر من سيطرتهم الاقتصادية والسياسية . والعامة كانت تبحث عن سلطة قادرة على حمايتها من الجميع بما في ذلك السلطة المطلقة للحكام والكنيسة والملوك او الأمراء او الحكام عموماً ، كانوا يبحثون عن سلطة قادرة على فرض ارادتهم على الجميع وفقاً لاسس شرعية مقبولة ، مما جعل بناء الدولة وسلطتها الجديدة ، فرصة واعدة بالكسب للجميع في صورة منافع مادية أو معنوية، أو في صورة مواقع في اطار مؤسساتها تأتي معها بهذه المنافع كلها .
ولتستطيع السلطة الحاكمة تحقيق ذلك، كان لابد لها من امتلاك المقومات أو الشروط اللازمة له ، والتي كانت وبنفس القدر الخصائص التي ميزت الدولة عن باقي الأشكال التقليدية للسلطة السياسية والمتمثلة في :-
1- استقلال البنى المؤسسية والهياكل التنظيمية للسلطة السياسية وانفصالها عن باقي البنى الاجتماعية ومؤسساتها وهياكلها .
2- استقلال الانشطة الوظيفية للسلطة السياسية وانفصالها عن الانشطة الوظيفية الاجتماعية الاخرى .
3- الطابع المؤسسي المجرد وغير الشخصي للسلطة ومناصبها .
واذ دخلت اوروبا عصر نهضتها بالدولة ومع الدولة ، فقد كان من الطبيعي ان يصبح ابتكار الدولة، هو جوهر الحداثة الاوربية وسببها ونتيجتها في ان واحد ، سواء فهمنا الدولة على انها السلطة السياسية التي تتم ممارستها على المجتمع وفي اطاره ، أو فهمناها على انها المجتمع باسره منظوراً اليه من زاوية تنظيمه السياسي الاجمالي ، او فهمناها على انها الدولة في مقابل الدولة كاشخاص للقانون الدولي يتفاعلون في اطار النظام الدولي .
هذه الدولة التي حققت الحداثة الاوربية وتحققت من خلالها ، فعلت ذلك اساساً في سياق تفكيكها للعمليتين السياسية والاجتماعية وفصلها بينهما ، مما جعل من الوظيفة السياسية وظيفة مستقلة تتولاها هيئة مستقلة ومتخصصة حصرياً بمزاولتها . وهذا هو الانجاز الاهم في ذلك السياق، لانه كان الاساس الذي قام عليه اختلاف الدولة وتميزها عن الاشكال التقليدية السابقة للسلطة السياسية ، التي لم تعرف من قبل لا استقلال السياسى عن الاجتماعي ولا التخصص الوظيفي السياسي،وهو ما يعني ان أشكال السلطة تلك كانت تنظيما اجتماعيا بقدر ما هـي تنظيـم سياسي وبطريقة مباشرة ،و لم يكن فيها سياسة ولا دولة بمعني ضيق ومستقل .وبذلك فقد أصبح من ابرز خصائص الدولة ومميزاتها ، الاعتراف باستقلال النطاقين / المديين الاجتماعي والسياسي عن بعضها علي المستويين الوجوديين المؤسسي والوظيفي ، مع الاقرار باستحالة افتراقهما وحتمية تعايشهما وتفاعلهما وتكامل ادوارهما .