التاريخ هو وقودنا الذي لا ينصب وسط بحر العولمة الجشع، التاريخ نهرنا العذب؛ مياهه لا تبدل ولا تكل عن المسير إلى المصب الذي يبعد كل يوم بضعة أميال، نعود إليه كلما اشتد علينا العطش والضياع على مأدبة اللئام، التاريخ منطادنا إلى المست
أنت هنا
قراءة كتاب معارك فاصلة في التاريخ الإسلامي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
سحر معركة بدر
لمعركة بدر سحر عسكري ونور عقائدي لا يزال يتلألأ في سماء المجد حتى يومنا هذا، الفئة الضئيلة المستضعفة، تدمر جيشا جرارا بفضل التنظيم والتخطيط العسكري، والعزيمة الفولاذية، وعون الله وملائكته، والاستيلاء على آبار بدر. بالمقابل استعلاء قريش وهشاشة صفوفهم . إن معركة بدر ليست مجرد موقعة عابرة في التاريخ الإسلامي، بل مفترق هام قلب صفحات التاريخ، وأبطل المعادلة العددية، وثقافة الأشراف والأسياد. فلمع نجم قوة جديدة على الكون، قدر الله لها أن تلعب دورا ً عالميًا، فكانت شارة النصر في بدر لا تعلن عن خسارة قريش أو انتصار المسلمين، إنما ولادة قوة عالمية تقارع الإمبراطوريات العظمى وتسحقها الواحدة تلو الأخرى، تشير إلى بزوغ دين رباني ترعاه عين الله. وقد بارك الله للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين هذا النصر في القرآن الكريم، كي تكون المعركة خالدة في ذهن المسلم والبشرية قاطبة، لأن الله أنزل القرآن وهو له حافظ: {إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. بدر آية قرآنية وآية عسكرية، وعلامة فارقة في التاريخ البشري، وخاصة أنها وقعت وعمر الدعوة الإسلامية بعمر الورد، وقوتهم يسمح العدو لنفسه بالتملق عليها. ووقوعها في شهر رمضان المبارك له حكمة، فهو شهر مبارك أنزل فيه القرآن الكريم: {شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم لعلكم تشكرون} البقرة: 185.
وشهر الانتصارات، شهر الصوم والجهاد والصبر على النفس، الرقي الروحاني، والتضحية ونصرة المظلوم والالتفات للفقير والمعدم، والتآخي والشعور بالانتماء لأمة مسلمة، جسمها واحد، وقلبها واحد، وقبلتها واحدة، وينبوع فكرها واحد.. معركة غيّرت قاموس العرب بقوة السيف وحرارته، كتبت أسماء جديدة تجيد الفروسية وأنغام الحرب: "علي وحمزة وأبي بكر وعثمان..." تغيّر مفهوم الغنائم، فلم يعد القائد يستحوذ على جل الغنائم، فللدعوة وقودها وحصتها، والفقير وابن السبيل.. وقبل أن يفكر المقاتل المسلم بنصيبه؛ يفكر بنصيب الله ورسوله. والمعركة رسالة واضحة لمعاقل الشرك، بأن الله لهم بالمرصاد، رسالة المسلمين الذين فضلوا الاستيلاء على القافلة التي لم يكن يحميها سوى 40 رجلا، خوفا من الاشتباك مع قوى عظمى، أراد الله أن يلقنهم درسا ً على أنهم قادرين على تسجيل النصر، وإن كانوا غير مستعدين وغير متوقعين. المعركة كشفت اللثام على وجوه المنافقين أصحاب القلوب الفارغة من الإيمان، المتذبذبين بين الحق والباطل، المتأرجحين على سلم إيمانهم، إنما ادعوا الإسلام لحفظ أعناقهم، أو لإبقاء جاههم، أو ضرب العقيدة المسلمة في صميمها من خلال نفث سمومهم وإشاعاتهم، للنيل من مارد الدعوة والرسول صلى الله عليه وسلم. يقينا هذا النصر كان صفعة لمخططاتهم ودحراً لقلاع نفاقهم الواهية. انتصار بدر المفاجئ أكبر من أن يستوعبه العقل، فلا عجب أن ذهل يهود مكة الذين سحب البساط من تحت أرجلهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، فلم يتغير بالنسبة لهم الإسم فقط؛ إنما تضعضع مركزهم الاجتماعي والسياسي، وخاصة بعد الصلح بين الأوس والخزرج.
بعد انتصار بدر؛ صار بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم مجابهتهم قبيلة قبيلة، حتى قضى على نفوذهم ووجودهم في المدينة، لأنهم لم يراهنوا على ثبات أقدام المسلين وعلو شأنهم وصدق رسالتهم. ومواجهتهم لم تكن دفعة واحدة بل بشكل تدريجي وحكيم، فكلما أطبق الخناق على قبيلة، كانت بمثابة رسالة للقبيلة الأخرى، لتغيير سياستها، والامتناع عن مساعدة العدو أو التآمر على وحدة المسلمين. أما إنه من غير المنطق أن يواجههم كونهم يهودا، وهو الذي يدعو إلى التسامح واحترام أهل الكتاب، ولا يستطيع تحميل قبيلة وزر قبيلة أخرى، فكان العقاب على أساس الإخلال بالاتفاقيات والوعود المبرمة بين الطرفين.