يعد مصطلح الحروب الصليبية نتاج عدد من التطورات التاريخية، والمفارقات الغريبة المدهشة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء.
أنت هنا
قراءة كتاب تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية
الصفحة رقم: 5
هكذا اختلطت فكرة الحج بفكرة الحملة الصليبية، وأصبحت كل منهما تعني الأخرى في بداية الحركة الصليبية، ثم توارت فكرة الحج في الخلفية، في حين صارت فكرة الحملة الصليبية تعني «جندي الرب». ولكن أهم عناصر هذه الحملة المقدسة يتمثل في مفهوم الغفران الذي كان العنصر الأهم في عيون العامة، لا سيما بعد أن ارتبط بالحج الجماعي الذي تقوم به أعداد كبيرة، وبعد أن صار مركز الحملة الصليبية في خطة أربان الثاني في كليرمون.
صحيح أن الغفران الذي منحه البابا في كليرمون لم يكن غفرانا كاملا، ولكن الناس فهموا أنه غفران كامل. ففي رواية فوشيه الشارتري عن خطبة البابا يقول: «إنني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين، فضلا عن أن المسيح يأمر بهذا، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية سواء في مسيرتهم على الأرض، أو أثناء عبورهم البحر، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين. وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها»، فقد ذهبت الدعاية الصليبية الشعبية إلى آفاق أبعد من ذلك، والواضح أن حقيقة ما قيل في كليرمون قد توارى في الخلفية بسبب الدعاية الصليبية النزقة.
وليست هناك طريقة لتفسير نجاح الدعاية للحملة الصليبية الأولى في عامي 1095م و 1096م، سوى البحث في تحويل مفهوم الغفران الصليبي إلى غفران كامل من الذنوب على يد الدعاة الذين روجوا للمرسوم الصادر في كليرمون وقدموا له تفسيرات تتعدى حدوده. وبعبارة أخرى كان الغفران استجابة لحاجة الناس التواقين إلى الخلاص من ناحية، ومتطلبات الحركة الصليبية نفسها من ناحية أخرى. وتبدو هذه الحقيقة واضحة من خلال النقد المرير الذي صبه علماء اللاهوت الكاثوليك على الغفران الصليبي منذ حوالي 1130م. وكان بطرس أبيلار (1079م- 1142م) هو أول من دخل هذا المجال.
ويبدو أنه مع بداية الحركة الصليبية كانت المسألة قد خرجت تماما من أيدي رجال الكنيسة، فقد تجاهل الناس خطط البابوية في تنظيم الحملة الصليبية، كما ضاعت هذه الخطط في موجات الأحداث المتلاحقة. وهذا هو نفس ما حدث لمفهوم الغفران الذي تطور بشكل تلقائي بفضل تداعيات الأحداث. وقد اضطر الباباوات للتخلي عن صيغة الغفران الجزئي الذي تحدث عنه البابا في خطبته في كليرمون، وفي خطاباته إلى أتباعه عندما تحدث عن «إسقاط التوبة» أو «حذف الكفارة» وتبنوا التفسير الشعبي للغفران. وقد بدأ هذا الموقف منذ عهد البابا أجينيوس الثالث في إعلانه الغفران المرتبط بالحملة الثانية (1145- 1149م). وقد أدى هذا الموقف الجديد إلى غفران الخطايا والإعفاء من التوبة والتكفير.
وهناك باباوات حاولوا إعادة الزمن إلى الوراء وإلغاء النص الخاص بغفران الذنوب والاكتفاء بإعفاء الصليبي من التوبة أو التكفير مقابل اشتراكه في الحملة الصليبية، ولكن محاولات البابا جريجوري الثامن باءت بالفشل، ووصلت مسألة الغفران إلى ذروتها في مجمع اللاتيران الرابع سنة 1215م. ومنذ ذلك الحين فصاعدا كانت فكرة الغفران تشكل أساس النظرية البابوية للحملة الصليبية. وقد نال كل الناس الذين ساهموا بأنفسهم، أو بأموالهم، في أي حملة صليبية، وعدا بغفران كل ذنوبهم وخطاياهم التي اعترفوا بها.
لقد تجسد مفهوم الغفران الصليبي واضحا جليا في دعائيات الحركة الصليبية بعد ذلك. ففي خضم نشاطه المحموم للدعاية للحملة الصليبية الثانية (التي جاءت كرد فعل لاستيلاء المسلمين بقيادة عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود على إمارة الرها الصليبية) قام برنار مقدم دير كليرفو بحث أبناء الغرب الأوربي على الذهاب في الحملة الصليبية. وكان ذلك بتفويض من البابا أجينيوس الثالث. وقد ذكر برنار في واحدة من خطبه الدعائية لهذه الحملة: «أيها الجندي الباسل، يا رجل الحرب، الآن لديك قضية تجعلك تقاتل دون أن يحيق الخطر بروحك، قضية؛ النصر فيها مجيد، والموت في سبيلها مكسب. أم تراك رجل أعمال ناجحا يدرك مكاسب هذه الدنيا بسرعة؟ فإذا كنت كذلك فإن باستطاعتي أن أقدم لك صفقة محترمة، فلا تجعل هذه الفرصة تفوتك، خذ شارة الصليب، وفي الحال ستنال الغفران عن كل خطاياك التي اعترفت بها بقلب نادم. ولن يكلفك كثيرا أن تشتري مكافأة السماء إذا ارتديت شارة الصليب في تواضع». وليس هناك وضوح أكثر من هذا في حقيقة أن الاشتراك في الحملة الصليبية صار ثمنا للحصول على الغفران الصليبي.
وقد عكس الأدب الأوربي في تلك الفترة مفهوم الغفران الصليبي على النحو الذي استقر في الوجدان الشعبي واستجابت له البابوية في المرسوم الذي أصدره البابا أجينيوس الثالث في ديسمبر 1145م، ففي أغنية صليبية يرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر الميلادي ضمن المجموعة المعروفة باسم أغنيات الحروب الصليبية نقرأ النص التالي:
لقد سمعت مثلا سائرا يقول
التاجر العاقل ينفق المال من حافظته
وصاحب القلب الطائش
هو الذي يرى الحسن فيختار القبيح
هل تعرفون بما وعد الرب
أولئك الذين سيأخذون صليبه؟
إنه لثواب حسن بالتأكيد
الفردوس، وكان وعده صادقا،
إن من يمكنه أن يربح من مكافأته
أحمق إذا انتظر إلى الغد
ومنذ مطلع القرن الثالث عشر الميلادي توسعت البابوية في منح الغفران الذي كان امتيازا للصليبيين الذاهبين إلى الأرض المقدسة. ففي سنة 1207م منح البابا أنسونت الثالث الفرسان الأوربيين المشاركين في الحملة الألبيجنسية (التي دعت إليها البابوية ضد نبلاء الجنوب الفرنسي الذين اعتنقوا مذهبا كنسيا يعارض هيمنة رجال الكنيسة الكاثوليكية على الناس في غرب أوربا) غفرانا يماثل الغفران الممنوح لمن يحاربون المسلمين في فلسطين: «نحن نرغب في أن أولئك الرجال الذين أخذوا السلاح للقتال ضد الهراطقة يجب أن يتمتعوا بالغفران نفسه الذي منحناه لأولئك الذين هبوا لنجدة الأرض المقدسة».