أنت هنا

قراءة كتاب تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية

يعد مصطلح الحروب الصليبية نتاج عدد من التطورات التاريخية، والمفارقات الغريبة المدهشة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 9

أحوال أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي

شكلت الحركة الصليبية انعطافا خطيرا في تاريخ الغرب الأوربي، إذ كانت الحملات الصليبية التي دارت على نطاق واسع، سواء من حيث مجالها الجغرافي، أو إطارها الزمني، أو أعداد الذين شاركوا فيها، أول حرب يخوضها الأوربيون تحت راية أيديولوجية بعينها. وعلى الرغم من الإفلاس الأيديولوجي الذي تجلى منذ البداية في خضم أحداث الحملة الصليبية الأولى إلا أن القوى الاجتماعية في الغرب الأوربي قد اعتنقت هذه الأيديولوجية الصليبية وفق تفسيرها الخاص الذي يناسب مصالحها.
ولما كانت الحركة الصليبية إفرازا للتفاعل بين الكنيسة والإقطاع فإنها كانت تسعى بالضرورة إلى تحقيق الأهداف الكنسية التي كانت البابوية قد بلورتها من خلال نزاعها مع الإمبراطورية، وهي أهداف كانت تتركز أساسا حول السيادة المطلقة للبابا على العالم المسيحي. كما أن الحركة الصليبية كانت، من ناحية أخرى، محاولة لتحقيق أهداف العلمانيين الذين خضعوا للتعليم الإقطاعي، سواء كانوا من النبلاء وفرسانهم، أو من الفلاحين.
لقد كان الفرسان يتوقون إلى توسيع سلطانهم وأملاكهم، ولم يكن هذا ممكنا دون الصدام مع الملكية. وبينما كانت البابوية تحارب ضد الملكية من أجل السيادة والسمو، كان النبلاء الإقطاعيون يتطلعون إلى بناء سلطتهم الإقليمية على حساب الملكية، ولعل هذا هو ما جعل البابا أربان الثاني يوجه خطابه إلى الفرسان الفرنسيين بالذات، لأن فرنسا كانت لا تزال الدولة الإقطاعية الوحيدة آنذاك.
أما البرجوازية الناشئة، ممثلة في القوى التجارية الإيطالية على وجه الخصوص، فقد رأت في المشروع الصليبي فرصة هائلة للسيطرة على تجارة البحر المتوسط وتجارة العالم، ولهذا سارعت إلى الانضمام للمشروع بعد أن صار حقيقة واقعة.
بيد أن هذه الدوافع التي حركت مختلف القوى الأوربية لشن حملتها الصليبية التي كانت بمثابة مشروع العصر بالنسبة للكثيرين، كانت محكومة بالأحوال والظروف التاريخية السائدة في الغرب الأوربي من ناحية، وبالإمبراطورية البيزنطية والعالم العربي من ناحية أخرى، وربما يكون مفيدا أن نلقي نظرة شاملة على أحوال أوربا الغربية عشية الحروب الصليبية، قبل مناقشة دوافع المجتمع الغربي لشن الحرب تحت راية الصليب.
كانت أوربا حتى القرن الحادي عشر الميلادي لا تزال مجرد منطقة جغرافية لم تتشكل بعد على المستوى السياسي، كما أنها كانت مجرد منطقة ريفية متخلفة بالقياس إلى كل من العالم البيزنطي والعالم العربي الإسلامي. فقد وصلت كل من الحضارة البيزنطية والحضارة العربية الإسلامية إلى قمتها، وبدأت بيزنطة منذ القرن الحادي عشر الميلادي تعاني مظاهر التآكل البطيء والضعف الناجم عن الصراع الداخلي والهزيمة الخارجية الفادحة على يد المسلمين في مانزكرت (ملاذكرد) سنة 1071م. أما العالم العربي الإسلامي فكان يعاني التشرذم والضعف السياسي، على الرغم من أنه كان لا يزال يحتفظ بإمكاناته العسكرية والبشرية، وثرواته الأسطورية، وعلى الرغم من أن الزمان كان لا يزال يحتفظ له ببعض من أعظم إنجازاته العسكرية والفكرية.
وقد كان القرن الحادي عشر الميلادي بالنسبة للغرب الأوربي بداية فترة امتدت ثلاثة قرون تمثل مرحلة الإبداع في تاريخ العصور الوسطى. وخلال تلك الفترة كانت المؤسسات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية، التي أخذت تتشكل منذ القرن السادس الميلادي، قد ترسخت بحيث كانت الأساس الذي قامت عليه الحضارة الأوربية في العصور الوسطى، ولعل هذا ما جعل المؤرخين الأوربيين المتخصصين في دراسة تاريخ العصور الوسطى يطلقون على تلك الفترة اسم العصور الوسطى الناضجة أو العالية.
لقد شهد القرن الحادي عشر الميلادي من وجهة نظر الغرب قادة كبارا وزعماء بارزين، مثل وليم الفاتح ملك انجلترا، والإمبراطور هنري الثالث وابنه هنري الرابع، وروجر الأول النورماني حاكم صقلية، وروبرت جويسكارد الذي كان ابنه بوهيموند من أبرز زعماء الحملة الصليبية الأولى، وألفونسو السادس ملك قشتالة. وقد كان أولئك جميعا من الحكام الجنود الذين كانوا يبحثون عن السلطة والنظام والكفاءة يمثلون الغدر والطموح والتعصب من وجهة النظر الشرقية. كما عاش في القرن الحادي عشر الميلادي معظم الباباوات الإصلاحيين، وأبرزهم جريجوري السابع الذي رغب في تحقيق السمو البابوي، وكان خليفته أربان الثاني صاحب الدعوة إلى الحملة الصليبية. وكانت الكنيسة قد مرت بأهم عملية إصلاحية تحت زعامة أولئك الذين تربوا في الأديرة الكلونية. أما الفلاحون المتعبون الذين كانوا يزيلون الغابات، ويزرعون أرضها بالمحاصيل التي تحتاجها أوربا، وبحارة جنوه وبيزا الذين طردوا المسلمين من شواطئ أوربا، فقد كانوا مدفوعين بروح الحيوية الدافقة والحماسة الجسورة التي ميزت حركة التاريخ الأوربي في القرن الحادي عشر الميلادي.
ومن ناحية أخرى كانت هناك تغيرات اجتماعية وتكنولوجية تجري في تلك الفترة، ولا شيء يكشف عن تأثير هذه التغيرات في غرب أوربا أفضل من أن نلاحظ أن الناس كانوا يسافرون إلى مناطق الحدود، وما وراء البحار بحثا عن فرص أحسن، وأملا في تحقيق طموحاتهم. وباختصار كان التوسع والتنظيم أهم سمات القرن الحادي عشر الميلادي. لقد أخذت أوربا توقن بأن طاقتها الحضارية النامية أكبر من أن تستوعبها أراضيها الضيقة، فأخذت تسعى لإيجاد منافذ خارجية لها. وقد كان هذا هو أهم أسباب التوسع الأوربي، ولم يكن ممكنا القيام بهذه الحملات دون وجود المقدرة على تنظيمها.
كان الطابع الريفي هو الغالب على أوربا القرن الحادي عشر الميلادي، وقد توزع سكان أوربا بين نموذجين رئيسين للاستقرار هما: البلدة التي كانت عبارة عن عدد قليل من أكواخ الفلاحين وبيوتهم المكدسة قرب مساحة الأرض التي يتولون زراعتها، وقد خلت هذه البلدة من أي كنيسة. وفي أسكتلندة وويلز وأيرلندة وبريتاني وأقاليم فرنسا الجبلية كان نمط البلدة هو السائد. أما بقية مناطق أوربا فقد كان النمط السائد فيها لمراكز الاستقرار السكاني هو القرية. وفي القرية عادة ما كانت توجد كنيسة، وبيت صاحب الإقطاع، أو قلعته، ثم بيوت الفلاحين التي بنيت من الطين وأغصان الأشجار. وحول القرية زمامها من الأرض الزراعية والمراعي، ثم منطقة البراري والغابات. وعلى حواف الحقول التي تمثل زمام القرية من الأرض الزراعية، كان الفلاحون يحرقون الأعشاب من آن لآخر لكي يزرعوا محصولا أو اثنين في الأرض التي خصبها الرماد الناتج عن الحرق.

الصفحات