يعد مصطلح الحروب الصليبية نتاج عدد من التطورات التاريخية، والمفارقات الغريبة المدهشة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء.
أنت هنا
قراءة كتاب تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية
الصفحة رقم: 10
وعلى الرغم من أننا نعرف بعض المعلومات عن تحسن الزراعة وأساليبها في القرن الحادي عشر الميلادي إلا أننا لا نعرف إلى أي مدى تحسنت وسائل الزراعة على وجه الدقة. لقد كان اختراع الطواحين الهوائية من أسباب تسهيل زراعة الغلال، كما أن عمليات إزالة الغابات واستصلاح الأرض كانت تجري في كل مكان في غرب أوربا. وكانت الأخشاب الناتجة من قطع الأشجار تستخدم في بناء المساكن والقلاع والكنائس في مناطق الريف والحضر على حد سواء، كما أن الفلاحين غيروا من نظام الزراعة في شريطين أو ثلاثة بسبب الابتكار الذي شكل المحراث الجرماني القديم الذي كان يفرض أن يكون حرث الحقول بشكل مستقيم على هيئة شريطين أو ثلاثة، فتحسن الإنتاج.
لقد أدت محاولات استصلاح الأرض على حساب الغابات والمستنقعات إلى زيادة الإنتاج الزراعي، وعلى الرغم من ضآلة معلوماتنا عن اقتصاديات الزراعة في غرب أوربا آنذاك، إلا أنه يبدو أن القرية كانت قادرة، مع قلة إمكاناتها، على أن تعول الناس الذين عانوا من قسوة الطبيعة والقانون الإقطاعي على السواء، ولا ينبغي أن نبالغ في قيمة عمليات النمو الزراعية لأن التحسن النسبي الذي طرأ على مجال الزراعة في أوربا في القرن الحادي عشر الميلادي لم يؤد إلى تحسين أحوال الفلاحين المعيشية، وإنما أدى إلى زيادة موارد السادة الإقطاعيين المادية والبشرية.
كان الناس في أوربا العصور الوسطى تحت رحمة الطبيعة إلى حد بعيد، إذ كانت الأرض المزروعة في القرن الحادي عشر الميلادي لا تزال ضئيلة المساحة بالقياس إلى مناطق البراري والغابات والأرض البور، وكانت كل هذه المساحات مرتعا حرا للدببة والذئاب وغيرها. ولم يكن غريبا أن تدخل هذه الحيوانات إلى القرى، أو تجوس في الحقول المزروعة. وفي كوخ حقير كان القروي يعيش حياة أصعب من حياة حيوان الحقل الذي يهتم به. أما طعامه فكان فقيرا وبسيطا من إنتاج حقله، وملابسه مصنوعة من جلود حيواناته، أو من صوف أغنامه. وكان يومه شاقا مضنيا يقضيه في أعمال كثيرة متنوعة بحيث يأوي إلى فراشه الحقير في المساء وقد هده التعب.
ولم يكن الفلاح الأوربي يأكل اللحم الطازج سوى مرة واحدة في أعياد الميلاد، ثم يحتفظ بالباقي مقددا ومملحا ليأكل منه طوال العام. ولكنه في كل الأحوال لم يكن ليأمن على نفسه من غائلة المجاعة. فبسبب التكلفة الباهظة لوسائل النقل في ذلك الزمان كان تدهور المحصول المحلي في أي إقليم مؤشرا على حدوث المجاعة.
وكانت السنوات العشر التي سبقت الدعوة إلى الحملة الصليبية الأولى سنة 1095م سنوات صعبة بالفعل على سكان أوربا، لا سيما في شمال فرنسا وغرب ألمانيا، إذ شهدت تلك السنوات سلسلة تكاد تكون متصلة من الفيضانات والمجاعة. ومنذ سنة 1089م كان الرعب يتملك السكان في تلك المناطق من ذلك الوباء الغامض الذي كان يضرب فجأة إحدى القرى، أو المدن فلا يتركها إلا وقد حصد أغلبية سكانها بمنجل الموت والعذاب البطيء.
ومن الطبيعي أن يكون رد فعل الناس في إطار رد الفعل الجماهيري المعتاد، أي التعلق بأهداب الدين، أو محاولة التكفير عن الذنوب، والتجمع حول الزاهدين والنساك بحثا عن الخلاص. لذا فقد راقت الدعوة التي وجهها البابا لشن حملة صليبية ضد المسلمين في عيون الفقراء، ورأوا فيها نبوءة تعدهم بالخلاص.
وبالنسبة لمعظم سكان الغرب الأوربي في القرن الحادي عشر الميلادي كانت القرية هي الوحدة الأساسية، اقتصاديا، وسياسيا، واجتماعيا، وعلى المستوى الديني أيضا، إذ أن التقسيم الإقطاعي فرض نوعا من الاقتصاد الطبيعي جعل الفلاحين في كل قرية يحاولون تحقيق الاكتفاء الذاتي في حدود ما تنتجه القرية. وفي أعياد القديسين الذين يبجلهم أهل القرية (وهم تعبير عن عبادة قوى الطبيعة على نحو أو آخر، ولم تعترف الكنيسة بأولئك القديسين الريفيين أبدا) كان القروي يجد المتعة والتسلية. وكان قساوسة الأبرشيات الريفية يقدمون للسكان الفلاحين معلوماتهم المشوشة عن المسيحية، وأفكارهم الضيقة عن العالم. ولما كان القسيس الأبرشي أميا في أغلب الأحوال فإن لنا أن نتصور طبيعة ما كان يقدمه من خدمات للفلاحين المساكين، وما ينتج عن هذه الخدمات الجاهلة المقدمة من قسيس جاهل من تعصب وتزمت مقيت. لقد كان القرويون يجمعون بين التدين العاطفي والإيمان بالخرافات والمعجزات. وكان سكان كل قرية يعتقدون بأن الينابيع والمجاري المائية والأشجار التي تحيط بقريتهم تضم بعض الأرواح التي يمكنها الإتيان بالمعجزات.
وقد اختلف الوضع القانوني للفلاحين، والجزء الذي يمكنهم الاحتفاظ به من محصول الأرض الزراعية اختلافا بينا من قرية إلى أخرى. ففي الربع الأخير من القرن الحادي عشر الميلادي كان كل رجل يعمل في أرض زراعية في انجلترا وفرنسا وغرب ألمانيا، مقيدا بالتزامات إقطاعية تجاه أحد السادة الإقطاعيين، إما إيجارا وإما خدمة. وفي بعض المناطق الريفية، مثل شرق ألمانيا وبعض أقاليم فرنسا، كان يوجد فلاحون أحرار، ولكن أولئك كانوا في سبيلهم لأن يتحولوا إلى أقنان. ولم يتم هذا التحول على أي حال سوى بعد القرن الحادي عشر.
لقد كان تحول الفلاح الحر إلى قن عملية تجري بمعدلات متصاعدة في كافة أنحاء أوربا، ولم تقف الكنيسة ضدها بل أفادت منها بصفتها أكبر ملاك الأراضي الزراعية في الغرب الأوربي حتى ذلك الحين، فقد كانت الهبات التي أغدقها الحكام والنبلاء على الكنائس والأديرة قد جعلتها تمتلك مساحات زراعية شاسعة، ومن ثم كان لابد من أن توفر لها من يزرعونها، وقد كانت عملية تحويل الفلاحين إلى أقنان، تحت ذريعة حب الرب، أكثر الوسائل فعالية لضمان قوة العمل اللازمة لزراعة أملاك الكنائس والأديرة.
لقد كان الأقنان يشكلون قطاعا هاما من سكان الريف الأوربي عشية الحملة الأولى. وكان أولئك الأقنان يحتلون مكانة في البناء الاجتماعي بين الفلاحين الأحرار من ناحية، وعبيد الأرض من الأرقاء من ناحية أخرى. ولم تكن أعدادهم أو نسبتهم متساوية في كل أنحاء أوربا، ففي انجلترا كان عدد الأقنان كبيرا، على حين كان عدد عبيد الأرض كبيرا في جنوب فرنسا واسبانيا وفي بقية مناطق فرنسا وفي الألزاس واللورين كانت الأغلبية من الفلاحين أقنانا دون أن تكون لهم حقوق تجاه سادتهم الإقطاعيين. وفي ظل تلك الظروف نجد أن الكثيرين ممن ولدوا في الشطر الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي قد وقعوا في أغلال القنانة، لأن واحدا من أسلافهم المجهولين قد أجبر على التخلي عن حريته.
وكانت العلاقة بين القن والسيد الإقطاعي تشبه علاقة كل منهما بالطبيعة في تلك العصور، فالسيد بالنسبة للقن يمكن أن يكون صديقا كما يحتمل أن بكون عدوا، لكن القن يراه ضروريا لاستمرار حياته في كل الأحوال. لقد كان كل أمر من أمور الحياة اليومية للأقنان مرتبطا بأسيادهم الإقطاعيين ومعتمدا على سلوكهم. وكان القن مربوطا إلى الأرض لا يمكنه الرحيل عنها، كما لا يستطيع أن يستبدل سادته إلا بارتكاب جريمة، أو المغامرة بالهروب، أو بشراء حريته بالمال (إذا قبل سيده بيعها). أما في شرق انجلترا وشمالها فربما كان أكثر من نصف الفلاحين أحرارا. بيد أن أحوال الفلاحين عموما، سواء كانوا من الأحرار، أو الأقنان، أو الأرقاء، كانت عابسة كئيبة مثل الليالي الموحشة التي كانت تلف قراهم بالبرد والظلام.