إن الدافع الرئيس من البحث في فكر جمال الدين الأفغاني يكمن في طرح مفكرنا إلى قضايا وحدوية ودينية وسياسية لها واقع في الماضي والحاضر والمستقبل كذلك ،ولذا ارتأيت طرح هذه القضايا وتفسيرها معتمداً على المنهج العلمي في التحليل من خلال مؤلفات المفكر ،وأراء الباحثي
أنت هنا
قراءة كتاب قضايا ساخنة في فكر جمال الدين الأفغاني
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الاجتهاد في نظر الأفغاني
اهتم الأفغاني اهتماما كبيرا بإصلاح الأمة الإسلامية من الناحيتين السياسية والدينية , فرأى أن الظروف السياسية التي حلت بالعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر كان سببها عدم فهم المسلمين لحقيقة دينهم , لذلك , اعتقد الأفغاني بأن إصلاح المسلمين لن يكون إلا بالجمع بين التجديدين الديني والدنيوي (10)
ويقوم الجمع بين الدين والدنيا , في نظر الأفغاني , على تنبيه المسلمين على ضرورة الأخذ بالفكرة الدينية القائمة على فتح باب الاجتهاد التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر ، ويعتمد هذا الجمع على الأصول الثابتة في الدين , ومن ثم العقل , الذي يمكن بوساطتهما تمييز النصوص الدينية الصحيحة من الموضوعة , يقول عبد القادر المغربي –أحد مؤيدي الأفغاني : ((إن الأساس الذي بني عليه الإصلاح الديني هو : تمييز نصوص الدين والحرص على فهمها فهماً حراً مستنداً إلى قواعد اللغة العربية , وقوانين بلاغتها , ثم أخذ المعقول منها)). (45:11)
وقد بين الأفغاني الجهل الذي تفشى في أولئك الجامدين الذين يفسرون القرآن ولا ينتفعون من آياته , فيقول: ((وإذا نهض أحد لتفسير القرآن , فلا أراه إلا يهيم بباء البسملة ويغوص ! ولا يخرج من مخرج حرف صاد الصراط حتى يهوي هو ومن يقرأ هوة عدم الإنتفاع بما اشتمل عليه القرآن من المنافع الدنيوية والأخروية)). (160:2)
ومما يدل على نظرة الأفغاني إلى تحرير الفكر الديني من قيود التقليد والعمل على فتح باب الاجتهاد : أنه اذا ذكر في إحدى الجلسات قولاً للقاضي عياض , تعصب له بعض الناس , فقال الأفغاني : إن القاضي قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله وتناوله فهمه وناسب زمانه – فهل لا يحق لغيره ان يقول ما هو أقرب للحق وأوجه, وأصح من قول القاضي عياض أو غيره من الأئمة؟ )). (177:2)
وقد رد الأفغاني على القائلين بإغلاق باب الإجتهاد بقوله : ((ما معنى: باب الإجتهاد مسدود؟وبأي نص سد باب الإجتهاد)).(177:2)
إذن, ينكر الأفغاني على المتعصبين قولهم بسد باب الاجتهاد لعدم وجود نص ديني يدعم قولهم , ثم يبين لهذا الفريق من الناس أن الأئمة المجتهدين السابقين لم يحيطوا بكل معاني القرآن ((وأولئك الفحول من الأئمة , ورجال الأمة اجتهدوا وأحسنوا, ولكن, لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن)) (178:2)
فالأفغاني يعتقد أن التنزيل الإلهي يشتمل في باطنه على كل الحقائق والمعاني , فلا ينبغي الوقوف عند الظاهر , وبالتالي, فإن مهمة الحكماء هي كشف هذا الباطن, وهذا يعني أنه لم يجعل للعقل حدوداً. (8)
والأفغاني يمجد العقل في أفكاره ومناظراته, ((فالحكم للعقل والعلم حتى ولو كانت حقائق العلم وأحكام العقل لا ترضي العامة الذين يساندون (رجال الدين) وتجار الديانات)).(139:9)
والأفغاني لم يكن منحازاً إلى العقل فقط في الحالات التي تتناقض فيها معطيات العقل والعلم , مع ما يؤمن به العامة ذوو الآفاق المظلمة, وإنما كان يتخذ هذا الموقف الثابت حتى عندما يحصل تناقض أو اختلاف بين الحقائق العلمية وظاهر الآيات في النصوص القرآنية , وهذا الموقف يبرز في لجوئه إلى التأويل. (9)
والتأويل, في نظره, يرتكز على عدم مخالفة النصوص القرآنية, وخصوصاً النص العام , أو ما يسمى بالنص الكلي لحقائق العلم , لكن, إذا تصادم النص القرأني مع حقيقة ثابتة من حقائق العلم , فعندئذ , يرى الأفغاني أن نؤوّل النص عن ظاهره من أجل اتفاقه مع العلم , إذ يقول: ((والقرآن يحب أن يُجلّ عن مخالفته للعلم الحقيقي , خصوصا في الكليات , فإذا لم نر في القرآن ما يوافق صريح العلم , والكليات, اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة, ورجعنا إلى التأويل)).(161:2)
وقد ضرب الأفغاني بعض الأمثلة على توافق العلم مع النصوص القرآنية , أذكر منها ثلاثة, هي:
1-أثبت العلم أن شكل الأرض كروي , فهي ذات شكل بيضاوي إهليلجي, وتدور حول الشمس الثابتة التي تدور حول محورها , وهذا الإثبات يتوافق مع إشارة القرآن بقوله ((والأرض بعد ذلك دحاها)) , والدّحو يعني بلغة العرب الشكل البيضاوي. (161:2)
2-لو صرحت الآية القرآنية بالبرق، وما تفعله الكهربائية من الغرائب لأعرض عنه الناس وحسبوه كذبا .(162:2) إنما يريد أن يقوله الأفغاني هو : أن الناس في تلك الحقبة من الزمن؛ أي زمن نزول القرآن كانوا على عدم معرفة بالأسباب العلمية الناتجة عن حدوث ظاهرة كونية , فلم يكن باستطاعتهم أن يعرفوا أن البرق سببه اصطدام سحابتين كهربائيتين مع بعضهما , لذّلك لم يُعن القرآن إلا بالإشارة إليه.
3-وصل علماء الفلك بالبحث إلى أن الأرض والشمس كانتا كتلة واحدة ثم انفصلت الأرض عن الشمس, وهذه الحقيقة لا يوجد في القرآن ما يخالفها, بقوله ((كانتا رتقاً ففتقناهما))(165:2)
ولم يقف الأفغاني بعقله النافذ عند هذا الحد, بل تجاوزه الى نبوءته التي اقتحم الإنسان بها عالم الفضاء في سنة 1961م , ووصوله إلى القمر, وذلك عندما يتساءل قائلا: ((....وهل يبقى مستحيلا إيجاد مطية توصله (أي الإنسان) للقمر , أو الأجرام السماوية الأخرى؟ ... وما يدرينا بعد ذلك ما يأتيه الإنسان في مستقبل الزمان إذا هو ثابر على هذا السير لكشف السر بعد السر من مجموع أسرار الطبيعة التي ما وجدت إلا للإنسان , وما وجد الإنسان إلا لها)) (140.139:9)