هذا كتابي الثاني بعد كتاب «صناعة شهود الزور»؛ وللمفارقة فإنَّ ما احتواه الكتاب الأول شرح مسبقاً الأحداث التي اهتم بها هذا الكتاب، خصوصاً في مسألة الصراع على سوريا وفي سوريا.
قراءة كتاب الوجه الآخر للثورات العربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لنا النفط ولكم الشريعة
مثال مختصر حصل أثناء زيارة وفد من المعارضة السورية إلى بكين بناء على دعوة خاصة؛ ففي لقائه مع نائب وزير الخارجية الصيني (تشاي جيون) بدأ الوفد السوري اللقاء الحديث عن الأوضاع في سوريا وأعداد القتلى، وكان المسؤول الصيني يستمع إلى المترجم الذي ينقل ما يقوله الوفد، وكان هناك من يدوّن محضر الجلسة. وبعدما استفاض الوفد بالحديث الذي أنهاه بالطلب من الصين مراجعة موقفها في مجلس الأمن، حتى ولو من باب الضغط على النظام(34) في سوريا، بدأ المسوؤل الصيني الحديث مرحباً بالوفد الضيف، وشرح سياسة بلاده في سوريا والعالم العربي والعالم بالقول: «إن الصين لم تكن لها مطامع استعمارية في السابق، وليس لها حالياً ولن يكون لها مستقبلاً، ونحن في الصين لدينا مشكلة كبيرة كل يوم؛ وهي كيفية إطعام ما يقارب مليار ونصف مليار صيني، وقد أصبح لدينا اليقين بعد الخديعة الليبية وكذب الغرب علينا وعلى الروس أنَّ الولايات المتحدة عبر سعيها لتغيير الحكم في سوريا تريد السيطرة على منابع النفط العالمية التي لا تزال خارج سيطرتها، وهذا يشكل تهديداً للقمة عيش الصينيين..»(35).
لنا النفط ولكم الشريعة، هذه هي الاستراتيجية الغربية الجديدة في العالم العربي والتي نظّر لها الفيلسوف الصهيوني (برنارد هنري ليفي) وطبّقها الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي ووزير خارجيته آلان جوبيه. لكم الشريعة طبّقوها كيفما شئتم، ولنا النفط وأمن إسرائيل. أما عملية امتلاك النفط فهي عن طريق الإمساك بقراره، وتحديد دوره السياسي في الصراع على النفوذ في العالم، ولا بأس أن تحكموا بما تعتقدون طالما أنَّ سياستكم وتطلعاتكم تتلاءم مع مصالحنا. أما معالم السياسة الجديدة فتتمثّل بسعي الغرب للسيطرة على ما تبقّى من منابع نفط خارج قرار الولايات المتحدة. إذن القضية استثمار، أما السمسار لهذا الاستثمار فليس سوى الحركات السلفية المقاتلة، وفي طليعتهم مقاتلو تنظيم القاعدة الذين قدّم سلاح الجو الفرنسي وطائرات حلف الناتو كلّ الدعم الجوي لهم في حربهم لإسقاط القذافي، وهؤلاء هم الشريك الجديد في سوريا وفقاً لعقيدة (آلان جوبيه) السياسية التي اختصرها إبان الحرب على ليبيا بالقول: «حربنا في ليبيا هي بمثابة استثمار للأجيال الفرنسية القادمة».
من مفارقات هذا الربيع العربي أن وزير خارجية فرنسا جعل من مجلس الأمن الدولي أرشيفاً لعشرات مشاريع القرارات التي تصبّ جميعها في خدمة حرب تنظيم القاعدة للسيطرة على الحكم في زوايا العالم الإسلامي الأربع(36)، وتبقى الجماعات السلفية المقاتلة خير حليف للغرب تاريخياً، فهي التي أسقطت الاتحاد السوفياتي مقدِّمة خدمة إستراتيجية هائلة للولايات المتحدة والحلف الأطلسي، وكل ما فعله أركان المحافظين الجدد في فرنسا نيكولاي ساركوزي، والفريق السياسي العامل معه، هو إعادة التحالف القديم إلى الحياة.. وعليك أيها القارئ الكريم أن تعرف أن تاريخ العلاقة بين فرنسا وجماعات جهاديي تنظيم القاعدة تعود إلى أكثر من ثلاثة عقود خلت، هي تاريخ بدء الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي التي تزامنت مع الغزو السوفياتي لأفغانستان في سبعينيات القرن الماضي حيث قام تحالف بين الولايات المتحدة الأميركية والغرب من جهة وباكستان والسعودية من جهة ثانية، استخدم السلفيين وجماعة الإخوان المسلمين في العالمين العربي والإسلامي ضد الجيش السوفياتي، وكانت مساجد العاصمة الفرنسية باريس وكبرى المدن الفرنسية طوال أيام الأسبوع، وخصوصاً يوم الجمعة أثناء الصلاة، تعجّ بالزوار الدعاة من السعودية وباكستان الذين يأتون بحماية الشرطة الفرنسية ورعايتها لتجنيد المقاتلين المتطوعين للذهاب لقتال الروس الكفار في بلاد الأفغان، بلاد الرباط والإسلام. وكنت شخصياً في تلك الفترة أتردد على مساجد في الدائرة الحادية عشرة من باريس، وفي دوائر أخرى في العاصمة الفرنسية فضلاً عن مساجد كبيرة في الضواحي الباريسية وباقي مناطق ومدن فرنسا، حيث كنت تجد دعاة سلفيين من باكستان والسعودية وبلدان أخرى يأتون إلى فرنسا لحث مسلميها على المشاركة في الجهاد ضد الروس في أفغانستان.
وقد بدأت العلاقات تأخذ منحىً صدامياً عام 1992 بعيد الانتخابات الجزائرية التي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية؛ فاتخذت فرنسا موقفاً رافضاً لها، ودعمت العسكر الجزائري في انقلابهم على تلك النتائج، ما أدى إلى توتر في العلاقات، أعقبتها عمليات قام بها إسلاميون جزائريون في مدن فرنسية عديدة. ولقد أدى هذا التوتر إلى حملة اعتقالات واسعة في صفوف الإسلاميين، وإغلاق عدد من المراكز والمصالح التابعة لهم فضلاً عن تفاقم الأوضاع في هذا الصراع وصولاً إلى تدخل الدولة الفرنسية في شؤون المسلمين العبادية والحياتية عبر موضوع الحجاب بداية، ومن ثم عبر فتح ملفات الإرهاب، وملف الدعوة، بما في ذلك فتح موضوع النقاب الإسلامي، أو ما يطلقون عليه (البورغا) الأفغاني هنا في فرنسا؛ غير أنَّ هذه العلاقة عادت إلى نوع من التفاهم والتعاون بعد الموقف الفرنسي من حرب العراق، كما أنها وصلت إلى مرحلة التحالف في لبنان بعد اغتيال الحريري، وفي سوريا حالياً حيث تحتضن فرنسا كبار مسؤولي الحركات الإسلامية السنية المناهضة للنظام من إخوان وسلفيين وغيرهم، ولم تتوان فرنسا هذه عن إعلانها التحالف مع الإخوان المسلمين في العالم العربي عبر كلام لوزير الخارجية الفرنسي الحالي (آلان جوبيه) قاله في سياق كلمة مطولة ألقاها حول الربيع العربي في معهد العالم العربي في باريس خلال شهر نيسان 2011 (37).