كتاب "الكرد شعب بدون دولة تاريخ وأمل"، للكاتب الدكتور غينثر داشنر، الصادر حديثًا عن دار الفارابي 2014، والذي ترجمه للعربية د.
أنت هنا
قراءة كتاب الكرد شعب بدون دولة تاريخ وأمل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وفي صلاح الدين الواقعة على بعد 20 كلم إلى الشمال من أربيل وعند بداية سفوح الجبال لا يمكن أن نجد غرفة واحدة فارغة. فهذه المدينة الصغيرة هي مقر عشيرة البارزاني. كما أن المقر الأساسي للحزب الديموقراطي الكردي الذي تقوده أسرة البارزاني يقع في هذه المدينة أيضاً. وثمة عدد من السياسيين العراقيين ممن يعيشون في المنفى ويشكلون حزب المؤتمر العراقي الوطني (INC) يوجدون أيضاً هناك للتباحث مع القادة الكرد ومع المبعوثين الأميركان الخاصين بشأن التنسيق حول ما يعد للعراق. وفي المكان نفسه نشهد وجود عملاء الاستخبارات الأميركية والقوى الخاصة إلى جانب الصحافيين الأميركيين والإنكليز أيضاً. وكذلك نشهد وجود بعثة من وكالة أنباء CNN بانتظار حصول شيء ما يكون موازياً لحجم وجودها. فلا يمكن تجاهل وجود علاقات كردية أميركية خاصة، ولا تجاهل معاينة عمل إجرائي مباشر مشترك بين الكرد والعسكريين الأميركيين ومكاتب المصالح الأميركية.
وعلى بعد 150 كلم شرقاً نجد فرايدون عبد القادر المسؤول عن الأمن المدني (وزير داخلية) لقرابة 500.000 ساكن في مدينة السليمانية، يعلن فيما يشبه إعلان تفليسة: لأن الأقنعة الواقية من الغاز غير موجودة لشرائها، ولأنها غير رخيصة أيضاً بالنسبة إلى المستهلكين العاديين، ولأن «أصدقاءنا الأميركيين» لم يوفروا حتى الآن أياً من تجهيزات الحماية التي وعدوا بها، فعلى العديد من المواطنين إخلاء عائلاتهم ونقلها إلى المناطق الريفية الأقل خطراً. أحياناً كانت تطلق بعض التعليمات حول كيفية صنع أقنعة بديلة. وهذه يجب أن تصنع من قُمُط أطفال يضم إليها الفحم النباتي والملح. فقد بلغتنا معلومات، على ما يضيف قادر، أن الوحدات العراقية الموجودة في جوارنا قد ضمت في صفوفها خبراء في الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية.
إن هذا قد يعني ما عرفناه سابقاً من الهجوم على حلبجة ومناطق أخرى في الثمانينيات من القرن الماضي.
إن القلق من الغاز يسري في كل مكان. وما يعزز القلق هو أنه في هذه الأيام تشهد المنطقة بكاملها، عبر برامج محطتي التلفزيون الكرديتين الموجودتين هناك، كما الجرائد واللوحات الإعلانية، الذكرى الخامسة عشرة لما جرى في حلبجة مع نهاية الحرب العراقية – الإيرانية يوم السادس عشر من آذار 1988 وهو يوم يذكر بالصدمة التي تعرض لها كرد العراق. وكبار السن منهم بإمكانهم إلى اليوم تذكر التفاصيل المروعة، أما بالنسبة إلى الشباب فإن المقاطع الثلاثة المشكلة لكلمة حلبجة (ح ـ لا ـ جا) أصبحت بعد مضي 15 عاماً مرادفاً تجريدياً لكلمات «الموت»، و«الضحية»، و«صدام».
على سبيل التذكير: في أيلول 1980 هاجم العراق إيران، الدولة المجاورة، التي شهدت قبل عام من ذلك ثورة أدت إلى إطاحة نظام الشاه الموالي للأميركان، والتي استطاع فيها آيات الله الشيعة إقامة دولة إسلامية إلهية معادية للأميركيين. حصل صدام حسين لتوليه هذه الحرب على مساعدة كاملة من الغرب، ومن الولايات المتحدة بشكل خاص. ففي ذلك الوقت كان الدكتاتور المعروف بقسوته حليفاً للغرب. قدمت مساعدات مالية بمليارات الدولارات، وتدفقت الأسلحة ومحطات الاستقبال الفضائية والمواد اللازمة لتحضير الأسلحة البيولوجية – تدفق كل شيء بسخاء ـ عبر الأطلسي. شكل قرار الأمن القومي رقم 114 الصادر عام 1988 الإطار السياسي. وإذا استمرت الحرب حتى هذا العام فقد ألف سكان حلبجة وكذلك شتى مناطق الحدود الإيرانية العراقية ضجيج الطائرات وكذلك غاراتها المفاجئة.
إلا أنه وبعد ظهيرة ذلك اليوم في 16 آذار/ مارس 1988 اتخذت حرب القنابل وجهاً لم تكن قد عرفته حتى ذلك الوقت. وما سُمع لم يكن صوتاً عالياً لانفجار قنابل. فالطائرات العراقية ألقت صفائح ذات لون رمادي إلى أخضر، تنفجر بمجرد ملامستها الأرض بصوت عميق. وحين ابتعدت المقاتلات ارتفع ضباب رمادي فوق المدينة. وكان العديد من السكان قد خرجوا من ملاجئهم الموقتة، ومن خنادق حفروها بأنفسهم وراحوا يركضون فوق الشوارع، ولكن كان الوقت قد تأخر ليلوذوا بالفرار. شعر الناس بحريق في الأعين، وانتابتهم دورات حادة من السعال وأصيبوا بتقلصات شديدة. لاحقاً أفادت إحدى اللجان الطبية: «بعض الناس أطلق روائح مختلفة، من ذلك ما يشبه رائحة بصل عفن، أو رائحة الخردل أو رائحة الجثث». لقد كان ذلك رائحة الموت الذي لا صوت له. ومن المنحدرات الجبلية انتقل الغاز السام الأثقل من الهواء إلى المدينة وزحف عبر الشوارع وتركز في الخنادق. لقد استخدم نظام الرئيس العراقي صدام حسين الطابون، وهو غاز أعصاب قاتل شديد الفعالية، وغاز الخردل الذي يشل الجسد، ضد الكرد الذين لا معين لهم.
وحين انقشع الضباب الأصفر – الرمادي بعد نصف ساعة، كان أكثر من 5000 من المواطنين قد استلقوا قتلى في الشوارع وفي البيوت. أمهات من الكرد والأبناء، والآباء. ماتوا اختناقاً وقتلهم السلاح الكيميائي. وجرح أيضاً نحو 10.000 آخرين. وإلى الآن في العام 2003 ما زال سكان حلبجة يعانون بعض الأمراض السرطانية واضطرابات عصبية وتشوهات في المواليد، إلى جانب من يولد منهم ميتاً.
لاحقاً أصدر الحزب الديموقراطي الكردي، وكان بقيادة مسعود البارزاني آنذاك، وهو أحد أبناء مصطفى البارزاني الذي توفي عام 1975 والذي أصبح أحد أبطال التحرر الكردي، أصدر لائحة طويلة ضمت 65 مكاناً آخر يزعم أن الفرق العسكرية العراقية قد قصفتها بالغاز السام. ثمة قائد آخر، وهو جلال طالباني رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردي وكان أول الأمر حزباً بتوجه يساري، قد عرض صيف 1988 في بون ولندن وباريس وواشنطن 40 شريط فيديو، يقال أن أتباعه التقطوها في قرى المناطق الكردية العراقية. وقد تسنى لي أن أطلع على هذه الوثائق المسجلة على أشرطة فيديو التي توازي أربعين ساعة عرض. وهي تضم صوراً متشابهة في كل مكان: جثث لا يبدو عليها آثار جراح خارجية، وجثث حيوانات منتفخة. آثار بقع دمامل على الجلد، وأحوال شلل أو جمود عند من بقي حياً من النساء والأطفال. بعد أشهر من ذلك عرض التلفزيون الألماني الغربي برنامجاً وثائقياً أخذ من هذه الأشرطة.
توجه قادة الكرد إلى القوى العظمى وناشدوا الأمم المتحدة لتقديم المساعدة. مع ذلك لم يسمح لأي من مراقبي الأمم المتحدة بزيارة شمال العراق، إذ إن بغداد اعتبرت ذلك «تدخلاً في الشؤون الداخلية»، ولأن الولايات المتحدة أيضاً قد أرادت مداراة هذه الجريمة. لايزال هذا إلى الآن بالنسبة إلى الكرد من الأمثلة المحاطة بالغموض التي تذكر بسياسة ذات وجهين! ففي حين كانت الدلائل الموزعة التي تدين بغداد تلقى اعتراض العالم، على الورق، تابع موظفو الولايات المتحدة وبتعليمات إدارة الدولة اللعب المؤلم على الحبال. هذا وقد عرض أحد العاملين المساعدين في International Herald Tribune، وهو ج. ر. هيلترمان في مخطوط كتابه عن سياسة الولايات المتحدة تجاه العراق ذلك بالتفصيل. وقد رأى، أن ديبلوماسيي الولايات المتحدة قد عمموا أنهم يملكون أكثر من دليل بأن الهجوم بالغاز السام تتحمل مسؤوليته قوات إيران الجوية...