كتاب "اللغة في المعرفة"، المعرفة بخصائصها الأساسية لا تحقق وظيفتها في الفن إلاَّ عبر المفاهيم، بما هي بنى عقلية في لبوس لغوي، وهي في العلوم الإنسانية كما في الأدب والميادين التي تتخذ اللغة جسداً لها معطى عقلي، حيث تفرض اللغة على الأدب وعلى الفكر المتجسد بها
أنت هنا
قراءة كتاب اللغة في المعرفة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المقدمة
بقدر ما يكون الفكر انعكاسًا للواقع، تصير اللغة أيضا أحد السبل إلى معرفته.
قد يبدو هذا الكلام مستغربا بعض الشيء، إذ هل من المعقول أن اللغة هي التي تعرِّف الواقع؟ أم أنّ الفكري هو الذي يعرِّف المادي؟ هل الذاتي هو الذي يعرِّف الموضوعي؟ وسأُتهم باتهامات شتى، بأنني من أتباع الثقافوية(1)، وأن المنهج الذي به أناقش قضايا الفكر والأدب، لفظي غير منطقي ومتعسف(2)، يرى إلى الفكر الثقافي في دراسة الوقائع الحياتية المادية. لكن البحث سيدور حول الأدب بما هو نص، وهو ممارسة ثقافية؛ الإنساني فيه هو الأساس، وهو بنية من الأفكار من إبداع البشر، وسنرى فيه إلى كيفية انتشار هذه الممارسات الثقافية تداوليا. وسنرى إلى الأفكار وكيفية تسييرها لشؤون الناس والمجتمعات.
الأدب هو العنصر الأساس في ثقافة أي شعب من الشعوب وممارساته الإبداعية والحياتية. والثقافة هنا بمعناها الأنتروبولوجي، أي هي المسير لسلوك البشر في المجتمعات وتصرفاتهم، لأنّ العلاقة ما بين الفن والمجتمع عامل أساس في فهم الثقافة، وفي علم اجتماع الفن والتداولية. ليس من منطلق الإبداع الأدبي فقط، ولكن من كيفية استجابته أيضا، بكونه أحد عناصر بناء ثقافة الناس وأفكارهم، وكيفية تأثيره في بناء مجتمعاتهم. وسيكون الانطلاق من مسلمة ماركس التي يقول فيها: «إنّ النحلة عندما تبني قفيرها، تبنيه بإتقان كبير، وعلى مدى مئات السنين، لكنّ أسوأ معماري يرسم خارطة المنزل قبل أن ينفذه».
من الحكمة أن نبقى دائمًا متيقنين؛ أنّ افكارنا هي قناعات ذاتية، وليست حقائق، والقناعة هي الرضى عن الشيء كما هو، وعندما يثبت العلم هذه الأفكار، تصير معتقدات، وهي أقوى من القناعات، أما الحقيقة، فإنها درجة أعلى من المعتقدات، لها بعدها الموضوعي، لكنها في مطلق الأحوال، تبقى الحقيقة هي الفكرة التي تطبع أفكارنا في علاقتها بمادة المعرفة، تعكس صفات موجودة في الظاهرة موضوعيا، هذا عندما يكون تفكيرنا علميا منطقيا، لكنَّ الحقيقة في جميع الأحوال نسبية، تتبدل بعد أن يقدم العلم معطيات أخرى، فيكتشف خصائص جديدة في مادة المعرفة، كما يبدع العلم مناهج أخرى، بواسطتها يرى إلى مادة المعرفة بعيون مختلفة، فيكتشف خصائص جديدة، كانت في المادة المعرفية، لكنّ العلم كان قاصرا عن رؤيتها بسبب النقص في مخططاته المعرفية. ما يعطي العلم حيويته، ويجعله بانيًا للحضارة.
القضية المركزية في فلسفة القرن العشرين كانت البحث في طبيعة المعرفة، وكان السعي المعرفي يتركز على استكشاف الآليات التي تسهم في عملها، وكيفية ربط الفكرة بالواقع المادي، وما مدى عكسها له، ومدى ارتباط هذا الفكر بالخصائص الأساسية لمادة المعرفة، وبالواقع المادي الكلي، وكيفية تجلي هذا الواقع المادي في الفكر.
لقد دلت الأبحاث في علم النفس المعرفي، أنّ الانعكاس المادي في الفكري، أي تحويل الوقائع المادية إلى بنى فكرية، ليس واحدا لدى جميع الذوات العارفة، التي تتعامل مع هذا الواقع المادي، وهذا هو الفرق الأساسي بين اللغة الإنسانية كوسيلة تواصل وباقي وسائل الاتصال لدى الأحياء، التي تعيش في مجموعات، وتستخدم في تواصلها ما نقول عنه مجازا لغة.
تتميز اللغة البشرية، بأنها تحول الوقائع الحياتية إلى مفاهيم، هي بنى من الأفكار عقلية وليست مادية، وهذه المفاهيم نتاج عاملين اثنين؛ هما الواقع المادي بخصائصه الموضوعية، والبنية الذهنية لدى الذات العارفة، التي كونته عن هذا الواقع المادي، وبما أن الوقائع المادية واحدة عادة، خامدة معرفيًا. يبقى المتغير الأول هو البنى الفكرية الموجودة لدى الذات العارفة الجمعية. لذا يُطرح السؤال التالي؛ ما مدى تأثير مستوى الذات العارفة في معرفتها لهذا الواقع المادي؟
الواضح أنّ هناك ارتباطًا جدليًا ما بين الكشف عن الخصائص الموضوعية لمادة المعرفة والبنية المعرفية لدى الذات العارفة (الجمعية)، ومستوى اكتسابها لعلوم عصرها، وانحيازاتها الفكرية. والتوجهات المعرفية التي تضعها البشرية أمامها. هذا الارتباط الجدلي ما بين مادة المعرفة والمخططات المعرفية لدى الذات العارفة في سعيها لاكتشاف خصائص المعرفة، هو الذي ينتج الفكر. لكنّ هذا الفكري ليس بمقدورنا معرفته، لأنّه ميتافيزيقي غير قابل للقياس، معرفته تخمينية متباينة، وبالتالي فهو غير قابل للمعرفة العلمية، ما لم يتجسد في المادي، وهو اللغة. واللغة، حاملة الفكرة، هي في تكوينها معطى سابق على التجربة المعرفية، وتمثيلها للفكرة سيكون بمعطيات منتجة سابقة، معان أبدعها آخرون، انطلاقًا من خصيصة أساسية من خصائص عمل اللغة، هي «ليس للفظة معنى، إنما لها استعمالات»، وكيفية عكسها لهذه التجربة المعرفية. التجربة المعرفية تتجسد في مفاهيم، بنى عقلية، تنتج عن نشاط الذهن البشري، تأخذ لها لبوسا ماديا هو اللغة، المحملة بمعانٍ سابقة على التجربة، لذا يصبح السابق متحكما باللاحق، ولكن ما يشفع في هذا المجال، وبكون المعنى الذي يرتبط باللفظ هو ارتباط اصطلاحي، هكذا لا يعود المعنى واحدا لدى الجميع، لأن المعنى الاستعمالي لأي لفظة يرتبط بأحد عناصر البنية العامة الذي هو السياق، وهو جزء من عام. وهكذا أيضًا سيكون استقبال هذه المعاني مختلفا ما بين المرسل والمرسل إليه، ومن كل القرَّاء الآخرين، وكل كلام عن حقائق مطلقة ثابتة غير نسبية جهل مطلق، ولغو فارغ لا قيمة معرفية له.
القضية الأولى التي تجابه الباحث في الميدان المعرفي في العلوم الإنسانية، في تلك النصوص، التي تأخذ تجسدها المادي اللغة في وظيفتها الجمالية، هي تحديد مادة المعرفة، لأن اللغة في وظيفتها الجمالية، لا تشير إلى الواقع، إنما إلى ذاتها، أي إلى رؤية(3) قائلها في مادة المعرفة، عندها نصل إلى متاهة بلا مدخل ولا مخرج.