أنت هنا

قراءة كتاب اللغة في المعرفة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
اللغة في المعرفة

اللغة في المعرفة

كتاب "اللغة في المعرفة"، المعرفة بخصائصها الأساسية لا تحقق وظيفتها في الفن إلاَّ عبر المفاهيم، بما هي بنى عقلية في لبوس لغوي، وهي في العلوم الإنسانية كما في الأدب والميادين التي تتخذ اللغة جسداً لها معطى عقلي، حيث تفرض اللغة على الأدب وعلى الفكر المتجسد بها

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

القراءة

هي الفعل المعرفي، بالفرنسية Lecture، حوار ما بين الذات العارفة والنص اللغوي؛ مفهوم منهجي، في تطور الشخصية البشرية معرفيا، هي فعل معرفة النصوص اللغوية وتأويلها وإقامة الدلالة منها. القراءة مفهوم حديث، يلازم النص، وأساس الاستجابة المعرفية له، والكشف عن دلالته. ظهر مع البنيوية السيميولوجية، وبخاصة بعد منهج التفكيك في المعرفة، الذي قال به جاك ديريدا. التي يرى به، أنّ التفكيكية هي تفكيك كل علاقة تربط اللغة بالواقع الخارجي. القراءة مهارة، ينبغي اكتسابها، ليكون تعاملنا مع الواقع علميا، والذكاء، في أحد أوجهه، سرعة في قراءة المعطيات الواقعية لأي نص حياتي أو لغوي بهدف التعامل معه. تعتبر القراءة مفهوما مركزيا من المفاهيم العلمية الحديثة في ميادين الثقافة والنقد الأدبي والتربية وعلوم التواصل والتداولية الأدبية؛ تتقاطع حولها ميادين معرفية متعددة، من مثل اللغة في جانبها التفكيري، وعلم النفس المعرفي، وعلوم التواصل والتربية.
القراءة بالمعنى الفكري عملية دينامية تتطلب جهدًا لفك رموز النص اللغوي، فكل كاتب يسجل فكره في رموز كتابية تجريدية؛ كلماتها ألفاظ، علاقاتها بمعانيها عرفية اصطلاحية، لذا فهي تتطلب من القارئ جهدا ومشاركة في تفكيك هذه الرموز، وتأويل مقاصد الكاتب من ورائها. يقول المفكر الألسني الإيطالي أمبرتو إيكو؛ القراءة عملية تتطلب جهدا خاصا، لأنها مهارة، وإعمال الفكر في تأويل المعطيات اللغوية لملء الفراغات، التي تخلقها اللغة ما بين ألفاظها ومعانيها، واستذكار المعطيات الحياتية التي يستند إليها النص. فالنص آلة كسولة، تتطلب من القارئ جهدا كبيرا وفهما خاصا وتأويلًا ممنهجا، وهذه تتطلب اشتراك ثلاثة عناصر لإنتاج دلالته، هي النص الذي يمتلك وجودا واقعيا، يتحول عند القراءة إلى معطى منهجي، والقارئ الذي يقارب النص بمخططات معرفية خاصة به من خلالها يرى إلى دلالات النص، ومقاصد الكاتب كما يظنها القارئ، لأنَّ القراءة خطوة أولى أساس في معرفة النص من جهة أولى، وفي بناء المخططات المعرفية من جهة ثانية. هذا التحديد المعرفي للقراءة ، يتطلب التسليم بأمرين رئيسين؛ أولا تعدد القراءات للنص الواحد؛ أي أن يُفهم النص ويؤول بطرائق مختلفة باختلاف المخططات المعرفية لدى كل قارئ في الزمن الراهن، ولدى القرّاء باختلاف الأزمنة، والأمر الثاني الناتج عن تعدد القراءات، أنَّ كلَّ قراءة هي إعادة إنتاج للنص من القارئ، وهذه هي وظيفة النص في بناء المخططات المعرفية، لذا نجد أنَّ القارئ والكاتب شريكان في إنتاج دلالات النص، والقارئ مسؤول عن تأويلات معطياته اللغوية.
القراءة، بالمعنى الفكري، خطوة أولى أساس في معرفة الواقع من جهة، وفي بناء المخططات المعرفية لدى القارئ من جهة ثانية، ومن أول المفاهيم المنهجية، التي تصبو إليها التربية الحديثة، عندما انتقلت من التعليم إلى التعلم. لأنّ التعلم ليس اكتسابًا يرتبط بالميدان الأكاديمي فحسب، لكنه مسار حياتي. التربية الأكاديمية هي التي تنظم القراءة، والتعلم المنهجي، وتسارعهما في الزمان. يرتبط التعلم بتكوين الذات الشخصية، وتحديد خياراتها بحسب مصالحها، وجعل الوعي منسجما مع المصلحة الحقيقة لهذه الذات، على مختلف الصعد، وتحديدًا بعد الانتشار الكبير لوسائل الإعلام، وسيطرتها على الرأي العام. إذا القراءة عندما تقوم بوظيفتها المنهجية تكوِّن رؤية صاحبها إلى الواقع، وتحرر الذات الشخصية من كل سلطة ثقافية، وتجعلها مالكة لخياراتها الفكرية والحياتية. هي المفهوم الحديث في النقد الأدبي في جانبه التداولي، وفي التعامل مع النص، بعد أن (أمات) رولان بارت المؤلف، وأوكل مهمة انتاج النص الأدبي إلى القارئ.
القراءة لغة في العربية هي الجمع، وليس التلفظ بالمخطوط، جمع الأصوات في الكلمة المفردة، والكلمات في الجملة لإنتاج الدلالة، ستعني لاحقا التعامل مع أي مادة معرفيا بعد تحويلها إلى نص، وربط الكلام بقائله وبالسياق الذي يجري فيه. القراءة هي في الوقت عينه المشاهدة والسماع والتفكر والتأمل في كل نص واقعي بعد تحويله إلى لغة. القراءة هي فعل المعرفة، والقارئ هو الذات العارفة. الذي يعْمِل فكره في كل مادة معرفية بهدف الكشف عن دلالتها. اللاعبون المحترفون في أي لعبة يمارسونها، وفي كل خطوة يقوم بها الخصم، يعيدون قراءة وقائع اللعبة، ويحددون الاحتمالات، ويتخذون خيارهم انطلاقًا من هذه الاحتمالات. هذا النشاط الفكري هو ما يعطيهم اللذة في اللعب وممارسته لفترة طويلة برغم الخسارة والتعب والإرهاق.
من ناحية ثانية لا نوافق على تعبيري التلقي أو الاستقبال اللذين يشيران إلى فعل قراءة النص، لأن التلقي يشيرالى سلبية القارئ، في حين أن دوره إيجابي في عملية القراءة، والاستقبال يدل على قبول النص كما هو، مع العلم أنَّ القراءة هي إنتاج آخر للنص من القارئ، وليس قبولا لمادته المعرفية، كما قال بها المؤلف، بالمقابل فإنّ الإجابة هي الرد على الكلام، تشترك معه في المادة المعرفية، وفي السياق الذي تجري فيه القراءة، لكنها من القارئ، غير ما هي من المؤلف. الاستجابة في واقع الأمر قراءة ثانية لموضوع المعرفة، عندما ينتج القارئ من النص الأول نصه الخاص به.
تعتبر السيميولوجيا كل مادة معرفية، مهما كان نوعها سمعيا أو بصريا أو تأملا خياليا، أو أي حقل إشاري آخر، لغةً، نصا، تشبه العلامة اللغوية، المتكونة من دال ومدلول، والقارئ هو الذي يقوم بعملية القراءة، أي تفكيك شيفرتها، وتأويلها لقراءة دلالتها، يأخذ القارئ من النص ما يبحث عنه، والجديد الذي يجده، أي ما هو موجود في بنيته المعرفية وفي النص على حد سواء، وليس النص كما هو في كل خصائصه المعرفية. لذا تصبح القراءة حركة جدلية ما بين معطيات النص وبنية القارئ الذهنية.
لقد أعطى أمبرتو إيكو القارئ دورا موازيا لدور الكاتب، عندما قال: «النص أذكى من صاحبه»، إذ إنّ القارئ هو الذي يكشف عن دلالات في النص، لم يكن الكاتب قد انتبه إليها.
القراءة هي المفهوم الحديث في المعرفة، أدى إلى تحولٍ جوهري في النقد الأدبي من القراءة الانطباعية إلى القراءة العلمية. وهي سعي في البحث عن مكونات النص لتفكيكها، وتشريح مستوياتها المتعددة، وتأويلها من خلال ربط عناصرها المكونة بعضها ببعض، والخروج بدلالة النص العامة، لأن النص جملة واحدة، تتخللها علامات الوقف.
فعل القراءة على الصعيد المعرفي، لا يعني فقط التفكير في شيء لم نجربه، كما لا يعني تشكيل مفاهيم جديدة من هذه المعطيات اللغوية، وإدراك أبعادها فحسب، القراءة نمو جديد في قدراتنا العقلية إلى الحد، الذي يؤدي إلى تشكيل لبنة جديدة في مخططاتنا المعرفية، تختلف عما وجد سابقا، لينتج عن هذا التفاعل مستوى أعمق في هذه المخططات، تدفعنا إلى أن نستقبل النص الجديد ببنية معرفية جديدة، هكذا على سبيل المثال تأتي القراءة الثانية لنص بعينه، لتكون قراءة أعمق للنص الواحد، وأن نرى دائمًا دلالات جديدة في النص عينه، تخرج من القراءات المتكررة، التي كوَّنت مستوى أرفع في مخططاتنا المعرفية. القراءة تقوم دائما بتنبيه قدراتنا الخامدة غير الفاعلة، فتبدأ هذه القدرات خلال عملية حل شيفرة أفكار النص في النمو، وفي تشكيل ذاتها في بنية جديدة؛ إنها أيضًا النمو المنهجي في قدراتنا المعرفية. وهي من ناحية أخرى ليست نموًا كميا تراكميا، لكنها تفاعل ما نستجيب له مع ما كان قد تكوَّن سابقا في بنيتنا المعرفية، لتعود فتشكل العمل الذي نقوم بحل شيفرته. إذا القراءة ليست عملية اكتسابية تراكمية كمية، لكنها تفاعلية تنمو جدليا، بوساطتها نكتسب معلومات جديدة، هي عملية بنائية، تسهم على الصعيد البيولوجي في تشغيل العصبونات المعرفية في أدمغتنا، لتنمو وتتفرع عنها عصبونات جديدة، هي أساس نمو بنيتنا العقلية، وعملياتنا التفكيرية، وانتقالها إلى مرحلة جديدة من إقامة المفاهيم المعرفية، فيزداد اكتسابنا المعرفي، وينمو، وينتقل إلى طور جديد، بواسطتها تتغير قناعاتنا السابقة نتيجة للتفاعل الجدلي بين ما كان في بنيتنا المعرفية وما اكتسبناه لاحقًا من فعل القراءة، وبهذا نفسر مضاعفة اكتسابنا المعرفي وديناميته والسرعة في الاستجابة المعرفية، وتحول هذا الاكتساب إلى بنى مختلفة كلما ازددنا قراءة. القراءة هي السمة المميزة للمعرفة البشرية دون سواها من أصحاب النشاطات المعرفية، وأصحاب اللغات التواصلية، لأنها ترتبط لديهم بالخصائص المميزة للغتهم في وظيفتها التفكيرية، وتمايزها عن وسيلة التواصل الحيواني التي نقول عنها مجازا لغة، وهي التي أعطتهم ميزة تحويل الوقائع الحياتية إلى أفكار، بما هي تكوين للمفاهيم والتخيل والتذكر والإبداع وحل المشكلات وإطلاق الأحكام، اللغة هي أساس بناء الحضارة البشرية. بواسطتها استطاع البشر فهم قوانين الطبيعة والعمل على تغييرها.

الصفحات