كتاب "اللغة في المعرفة"، المعرفة بخصائصها الأساسية لا تحقق وظيفتها في الفن إلاَّ عبر المفاهيم، بما هي بنى عقلية في لبوس لغوي، وهي في العلوم الإنسانية كما في الأدب والميادين التي تتخذ اللغة جسداً لها معطى عقلي، حيث تفرض اللغة على الأدب وعلى الفكر المتجسد بها
أنت هنا
قراءة كتاب اللغة في المعرفة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
هناك عاملان سيكونان منطلقا لدراستنا؛ هما التركيز على الذات الفردية في اكتساب الأدب، لأنها الأساس في التعلم، وفي عملية التربية المعاصرة، وفي الثقافة الشخصية، التي ستبني الحضارة المجتمعية، وسنرى إلى التركيزعلى التفكير المنطقي بدل التفكير اللفظي المسيطر في التربية التعليمية والمجتمعية لدينا، وعلى دور الصحة النفسية؛ بما فيها الذكاء الاجتماعي والذكاء العاطفي، لنصل إلى شخصيات ذوات تفكير سليم، لها إسهامها في بناء الثقافة الفردية وتاليا المجتمعية. وهكذا تستعيد الذات الفردية موقعها، الذي طمس طويلا بحجة الحقيقة الموضوعية، وفي بناء ثقافة المجتمعات، على حد قول الإنجيل: إن الحجر الذي رفضه البناؤون صار حجر الزاوية.
والناحية الثانية، سنسعى إلى رؤية دور اللغة في تشكيل المخططات المعرفية، حيث تستند هذه الأخيرة إلى المفاهيم، والمفهوم بنية عقلية في لبوس لغوي، وهو هنا تسمية، والتسمية تكون أول الأمر للسمة الأكثر بروزا في وعي الجماعة، التي تطلقها على أي ظاهرة معرفية، صحيح أن التسمية تثبت فيما بعد، ويُكتب لها الشيوع، فتصبح مفروضة في الاستعمال، لكنها تغير مضامينها انطلاقًا من مبدأ معرفي يقول: «إن الظاهرة التي تثبت عبر التاريخ، لابد تغير مضامينها ووظائفها بحسب حاجة المجتمعات إليها».
هناك فرضيات بنى عليها العلم تاريخه الطويل، كبّلته، ولم يستطع الفكاك منها؛ هي تلك الثنائيات التي تحدد التوجه الفكري، وعلى الباحث أن ينحاز إلى واحد منها، وتفرض عليه أن يكون؛ إمَّا هذا وإمَّا ذاك؛ منها: المادية والمثالية، العلم والفن، المادة والفكر، العقل والعاطفة، الوعي واللاوعي، العلم والإيمان، اللفظ والمعنى، التفكير اللفظي والتفكير المنطقي، وهكذا دواليك... فيحشر المفكر نفسه دائمًا في واحدة من هاتين المقولتين، إمَّا هذا وإمَّا ذاك، يأخذ مما في انحيازاته، ويرفض مما لدى الآخر، وكأنه قانون الثالث المرفوع، ولا يرى إلى الترابط والتفاعل في ما بين هذه الثنائيات.
كان هدفنا أيضا أن نرى إلى التعلم، وإلى دور الذات الفردية في اكتساب المعارف، ما يدفعنا إلى أن نرى إلى التداولية في الأدب، وهي بشكل عام الاكتساب الشخصي للقيم الفكرية الفنية والعلمية على حد سواء. وهو الجانب الذي لم يلتفت إليه علم الأدب سابقا، والذي تفترضه الأنتروبولوجيا في الميدان الفني. كانت الرؤية السابقة تدور في الطابق العلوي من المعرفة ما بين الأدباء والمفكرين، وجل اهتمامهم أن يصلوا إلى المثقفين وأقصى طموحهم أن يصلوا إلى المهتمين بالعلم والثقافة، وهذا ما أوصل إلى القطيعة ما بين المفكرين وعامة الشعب، وأوضح مثال على هذا هو التراث الفكري والثقافي لعصر التنوير العربي، إذ غالبا ما يشكو الأنتروبولوجيون من هذا الإنقطاع المعرفي ما بين عصر التنوير وعصرنا الراهن، وما بين الرؤية الخلَّاقة إلى دور الدين وقراءته الجديدة من المنورين، وما بين التيارات السلفية المعاصرة، ما بين العلمانية كمنهج في معرفة الواقع الاجتماعي، يخضع للزمان والمكان، وإلى تحويل العلمانية إلى معطى إيماني، علينا التسليم بحقائقها، كما وردت في مجتمعات أخرى. إننا نعيد سبب هذا الانقطاع إلى غياب القراءة، بما هي ممارسة منهجية من المعاصرين، هي أساس معرفة الواقع المعاصر، ترى إلى كل الميادين المعرفية العلمانية كما الدينية. في الميدان الديني برزت الأصولية، كقراءة للتراث ترى إلى الجانب الأصولي فيه، ذلك الجانب الذي يخدم مصالحها، وفي العلمانية جرى نقل ما يتناسب مع المجتمعات التي أبدعتها وطوّرتها في زمانها كإطار لتطبيقها الخلاق، ونقلها إلى مجتمعات أخرى بانقطاعها عن تطورها التاريخي. والسبب الرئيس في رأينا هو عدم تداولية أفكار المنورين العلمانيين والمفكرين الدينيين، وإن أقصى ما يفعله المثقفون المعاصرون، ترداد أقوال معزولة، وتعابير منزوعة من سياقها من تراث المنورين، لأننا لم نُقم قراءتنا لتراثهم، أي لم ننتج معرفة بكيفية الإفادة من هذا التراث، ما هو حي منه، وما يخص زمانه، الذي ذهب معه. وما هو حقيقة تخص الذات البشرية في كل زمان ومكان. التيارات الأصولية أقامت قراءتها الخاصة لتراث الأقدمين بأن أعطته قيمة مطلقة، واختارت من هذا التراث أسوأ تجلياته، ولم يعترفوا بالمنورين الدينيين، لقد قدموا قراءتهم المجتزأة والمشوهة، وقاموا بنقل بعض أحكام الأقدمين وأقوالهم حرفيا، وعملوا على تطبيقها على معطيات زماننا الراهن، ولدى الجميع بقيت التداولية غائبة، والقراءة المنهجية أيضًا، وجل ما قامت به التيارات الأصولية والقومية كان نقل بعض أفكار الأقدمين وتطبيقها على واقعنا الراهن بلا قراءة ودون تداولية منهجية. لأن الطابع المهيمن في تفكيرنا لا يزال تسليميًا، والتسليم هوالأساس الديني الذي يسحب نفسه حتى على فكر الحداثاويين أيضا، أي أننا نرتاح إلى ما قاله غيرنا، وننقله إلى واقعنا. ولم نفكر هذا الواقع، وعسى أن تقدم القراءة معطيات جديدة لتغيير الواقع الفكري والحياتي لدينا.