كتاب "اللغة في المعرفة"، المعرفة بخصائصها الأساسية لا تحقق وظيفتها في الفن إلاَّ عبر المفاهيم، بما هي بنى عقلية في لبوس لغوي، وهي في العلوم الإنسانية كما في الأدب والميادين التي تتخذ اللغة جسداً لها معطى عقلي، حيث تفرض اللغة على الأدب وعلى الفكر المتجسد بها
قراءة كتاب اللغة في المعرفة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الصعوبة الكبرى في ميدان العلوم الإنسانية تكمن في تحديد الباحث لمادة عمله، لكي تتناسب مع أدواته المعرفية ومنهجه الفكري، الذي يرتبط بميدان اختصاصه. ففي ميدان العلوم الدقيقة أو التطبيقية القضية سهلة، لأن مادة المعرفة تقدم نفسها بخصائصها الموضوعية، وبتميزها عن غيرها. إضافة إلى أنّ المناهج في ميدان العلوم الدقيقة واضحة سهلة غير متداخلة، تمتلك معايير موضوعية، بها يتم الحكم على صحة هذه النتائج أو خطئها. الصعوبة في ميادين العلوم الإنسانية تكمن في تداخل موادها، وتنوع مناهجها المعرفية، لأن المنهج في العلوم الإنسانية لا يرتبط بخصائص المادة موضوع المعرفة، ولكن بفلسفة الباحث الفكرية، ووجهة نظره المعرفية. من ناحية ثانية إنّ موضوع العلوم الدقيقة قائم بذاته، بمقدور العلم أن يقيم له تحديدات منهجية، لأنه يتحدد بخصائصه الموضوعية المكتشفة بواسطة العلم في زمانه المعاصر، والنتائج التي تتأتى من البحث العلمي، لا تحتاج لكثير نقاش، إلا بعد أن تتغير المنطلقات المعرفية لدى الباحثين في هذا الميدان، لذا كان طموح العاملين في ميدان العلوم الإنسانية في نهاية القرن التاسع عشر، أن تكون مناهجهم المعرفية ونتائجها العلمية أقرب إلى العلوم الدقيقة، لقد وعدت هذه التوجهات الجديدة في أن تحقق علوما إنسانية صلبةً، كما الفيزياء عند التجريبيين والرياضيات عند التأويليين والظواهريين، لذا كانت العلوم الطبيعية هي الأمنية والهدف العلمي لعلماء الإنسانيات، لأنّ «الموديل» الفكري للقرن التاسع عشر بتوجهاته الواقعية، التي ترى إلى أنّ القوانين العلمية، التي تسير الواقع، كانت قد أعطت الأولوية للعلوم على حساب الفنون. وهذا ما قام به على سبيل المثال أونوريه دي بلزاك، فبعد أن كتب أعمالا روائية رائعة حول العلاقات الأسرية وميول النفس البشرية، عاد ليكتب أبحاثا علمية في هذه الموضوعات، لاعتقاده، أنه هكذا يكون أكثر علمية. هذا السعي العلمي لجعل نتائج العلوم الإنسانية قريبة من نتائج العلوم الدقيقة كان مخيبا للآمال. وقد عُبِّـرَ عنه بالشكل التالي: «إمّا مناهج معرفية دقيقة توصل إلى نتائج ضحلة، وأما مناهج معرفية تخمينية، توصل إلى نتائج معرفية مهمة»، وهكذا كان السعي إلى اعتماد المنهجية اللغوية في العلوم الإنسانية، التي قدمت بعض المناهج الدقيقة نسبيًا، والنتائج الصلبة، وبالتحديد استنادًا إلى المنهجية الألسنية في علوم اللغة، كما قدمها دي سوسير وتشومسكي وأندريه مارتينيه والفلاسفة اللغويون الآخرون، ومنجزات علم النفس المعرفي، التي استندت إلى الخاصية اللغوية في العمليات المعرفية.
إنّ أهم ما قدمته الألسنية والبنيوية في هذا المجال مفهوم «الأدبية». والذي صار من مسلمات علم الأدب، وانتقل إلى أنواع أدبية أخرى، وبدأنا نتعامل بمفهوم المسرحة ومفهوم السرد والوصف وخلافها. وعلم النفس المعرفي باستناده إلى اللغة والمفاهيم العقلية وصل إلى مفهوم «المخططات المعرفية»، وهي البنية المعرفية الذهنية الانفعالية لدى الذات العارفة، والبنيوية السيميولوجية أبدعت مفهوم النص والقراءة، وعادت إلى مفهوم التأويل، واستندت فيه إلى المعطيات اللغوية، والأنتروبولوجيا البنيوية أوجدت مفهوم التداولية. وهي مفاهيم علمية دقيقة، يعتد بها الباحثون، ويتخذونها أدوات في دراسة الآداب والفنون والوعي الاجتماعي.
لقد صارت هذه المفاهيم من منجزات علم الأدب. لكن وبالرغم من اتفاق دارسي الأدب على مرجعيتها، واعتبارها أدوات منهجية، يمكن الاعتداد بها، والاستناد إليها. إلّا أنّ الباحثين لا يزالون يتجادلون في بعض مضامين هذه المفاهيم، فمنهم من يجعل الأدبية مفهوما يندرج في الشكل فقط، بينما يجعل بعضهم المضمون بخاصيته الفنية واستناده إلى المعرفة الانفعالية إلى جانب العقلية جزءا أساسًا من مفهوم الأدبية، وهذا طبيعي لأن المناهج في العلوم الإنسانية، تتركز في فلسفة الباحث الفكرية، والتي بها يرى إلى مادة عمله، وليس في مادة المعرفة.
إنّ ميدان الدراسة الأدبية أو مجال علم الأدب، ليس ميدانا موضوعيا، له استقلاله الذاتي، بالإمكان تحديد أبعاده الموضوعية، أوالحيز الفكري الذي يوجد فيه، لكن بكون الأدب والفن تعبيرا عن هذا الواقع؛ تعبير ذاتي عن واقع موضوعي، وعندما يكتسب خصيصته التداولية والشيوع في مجتمع ما، يصير تعبيرا اجتماعيا، هو الوعي الجمالي، أحد عناصر ثقافة كل شعب من الشعوب، وهذا هو ميدان دراستنا، وهي في مجالنا. ما الذي نعده أدبا؟ وما الذي لا يعد أدبا؟ وما الذي يدخل في ميدان العلوم الإنسانية الأخرى، أو في مجال الفنون الأخرى، ما هي الخصائص، التي تميز الأدب عن سواه من الميادين العلمية الكثيرة، والتي عادة ما تكون متداخلة فيما بينها، ومع خصائص العلوم الإنسانية الأخرى، التي تتشارك مع الأدب ميدانه الأكبر. هذه القضية هي التي كانت الشغل الشاغل لعلماء الأدب والنقاد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والإجابة الأهم أتت من «الشكلانيون الروس»(4)، الذين اعتبروا أن مادة عملهم ليست الأدب، ولكن الأدبية؛ وهي تلك الخصيصة، التي بتواجدها في نص لغوي ما، تحوله إلى أدبي، لذا اعتبروا أن الأساس في الأدبية هو اللغة، لا في وظيفتها المرجعية، إنما في وظيفتها الجمالية الشعرية، فلو استخدمت اللغة في وظيفتها المرجعية، لكان النص علميا، ولكن اللغة في الأدب، هي التي تلفت الانتباه إلى ذاتها، وفي أنها تخص القائل لا الواقع الموضوعي، وفي هذا المجال كان «الشكلانيون الروس» يركزون على وظيفة الأدب، لا على ماهيته، وكانوا أوفياء أيضا لنظرية كانط في الفنون، الذي اعتبر أن النشاط الجمالي نوع من لعب الخيال العبقري الحر، وتجرد الحكم الجمالي من المنفعة.
سيدور كلامنا حول دور الفنون والأدب في تكوين البنية المعرفية للقرّاء، وتشكيلها للوعي الجمالي لدى الأفراد والشعوب، بما هو الأساس في بناء الثقافة، وعلى ضوئها يتم بناء الحضارة، أي في ضوء وظيفة الأدب الاجتماعية. وسنرى إلى دوراللغة المركزي في هذا الميدان.
إن أزمة الفنون في بعض المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا العربية، هي الوجه الأبرز لأزمة بناء الثقافة، وهي أننا لا نزال نعيش في ظل مفاهيم ثقافية، أنتجها غيرنا، ولم نستطع بناء ثقافة جديدة، تكون انعكاسًا لواقعنا، وتنسجم مع تطلعاتنا، وهي في الوقت ذاته أزمة هذه المجتمعات. وهي ليست أزمة في الشروط المادية لإنتاج الفنون واستقبالها، بقدر ما هي أزمة في الرؤى الفكرية، التي تُسيِّر المجتمع، وتتحكم في رؤيته إلى ذاته، وإلى نمو حياته، وثراء عالمه الداخلي. وإلى معرفة كل قضية من قضاياها معرفة علمية. وتتعدد أزمة الفنون في المجتمعات العربية، فهي أزمة إبداع، وأزمة استجابة بما هي قراءة، كما هي أزمة بنية ثقافية في المجتمع، تسهم في إبداع الفنون وتداوليتها، وهي أيضًا أزمة غياب البحث العلمي أساس كل تقدم مادي. إنها أزمة حضارة نفعية مبتذلة، لا ترى منفعة إلّا في ما تحوله إلى رأسمال قابل للتداول والنمو الآني. ولا ترى إلى اقتصاد المعرفة، وأن إنتاج الثقافة والبحث العلمي هما القاعدة الفكرية، الأساس الذي يسهم في نمو أي رأسمال على الإطلاق. إن وجد الإبداع في مجتمع من المجتمعات، ما لم تصاحبه استجابة قراءة، يبقى دون أثر في مجتمع مبدعه، لكنه سيجد قرّاء في مجتمع آخر، وهكذا برزت ظاهرة انتقال المبدعين من مجتمع إلى آخر، وإلى لغة أخرى اكثر استعدادًا لاحتضان إبداعهم، لأن الخصيصة الأساسية للفنون على أنواعها هي في تداوليتها. وليس في وجودها الخاص القائم بذاته. من جهة أخرى، إن وجدت الاستجابة الفنية في مجتمع من المجتمعات، وإن كانت استجابة لإبداع مجتمعات أخرى، ففي مرحلة لاحقة لا بد سيؤدي هذا إلى إبداع في الفنون المحلية، لأن هذه الاستجابة الفنية، ستسهم في بناء المخططات المعرفية لدى القرّاء، وترفع من مستوى الوعي الاجتماعي، والتي بدورها ستكون عاملا في تشكيل الوعي الفني، وفي إبداع الفنون لاحقا. إذا نظرنا إلى بعض المجتمعات التي تسجل معدلات مرتفعة في مستوى الدخل القومي ومستوى الدخل الفردي، دون نشاط على مستوى استجابة الفنون وإبداعها، نجد أن هذه المجتمعات، لا تسهم في بناء الحضارة البشرية، وتبقى مستهلكة لها (بالدلالة السلبية للكلمة)، وتستقبل المبتذل والسوقي من إبداع الشعوب الأخرى، لأن غناها المادي لا يستطيع أن يؤمن لها الثقافة، التي هي أساس الحضارة، في حين أنّ العكس صحيح، أي أنّ شح الموارد المالية، وتطور المخططات المعرفية، ستسهم في تعزيز البحث العلمي والإبداع الفني على حد سواء. وسيكون لها دور أساس في تنمية الإنتاج المادي، وهذا هو اقتصاد المعرفة.