كتاب "اللغة في المعرفة"، المعرفة بخصائصها الأساسية لا تحقق وظيفتها في الفن إلاَّ عبر المفاهيم، بما هي بنى عقلية في لبوس لغوي، وهي في العلوم الإنسانية كما في الأدب والميادين التي تتخذ اللغة جسداً لها معطى عقلي، حيث تفرض اللغة على الأدب وعلى الفكر المتجسد بها
قراءة كتاب اللغة في المعرفة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مدارج القراءة
القراءة، وإن بدت كفعل واحد مكتمل في الزمن، إلّا أن هناك عدة عمليات نفسية وذهنية، تجري قبل الوصول إلى القراءة النهائية، وإقامة الدلالة. يبدأ فعل القراءة بالإدراك، وهو اكتساب معلومات جديدة عبر العمليات المنطقية والذكاء العاطفي والإنحياز الوجداني، وهو ليس فعلا آليا، أوانعكاسًا سلبيا، أو تراكما كميا، كما يبدو للوهلة الأولى، وليس خارجا عن البنية المعرفية السابقة المتكونة لدى الذات العارفة، لكنه عملية إيجابية إنتقائية متفاعلة، تخضع للبنية الذهنية للذات العارفة، التي تختار ما يلائمها، وترتاح إليه، فتقوم بالتحديد والتصنيف والتبويب، إذ إنها تضع ما تستقبله في خانة، ما كان قد تكوّن لديها، تعدِّل فيه وتضيف إليه، وتستنتج من الجديد ما تشعر أنها بحاجة إليه، أما ما ليست بحاجة إليه، فإن استقباله يكون ضعيفًا(8) واستجابته ضئيلة. وهكذا فالقراءة هي الخطوة الأولى في التفاعل، ما بين الجديد، الذي يتم استيعابه، وما كوّنته الذات العارفة وبنته في المخططات المعرفية.
يعود الفضل في الرؤية النوعية لدور القراءة في الاكتساب المعرفي إلى نظرية الجشطلت، حيث تعتبر هذه النظرية، إن أول القراءة هو الإدراك الحسي ـ الشعوري للمعلومات، إذ تضع المعلومة المستقبلة، بكونها حالة فردية في بنى وتشكيلات من الفئات العامة، مع ما يلائمها من التعميم. ويعود الفضل أيضأ إلى البنيوية، التي ترى إلى النص في كليته، وإلى بنيته العميقة، ومكوناته، ليس بكونها حقائق قائمة بذاتها، لكنها عناصر في البنية العامة، تأخذ دلالتها من دلالة النص العامة.
الإدراك في جوهره هذا عملية تنظيمية، تستند إلى مفاهيم وفئات إدراكية كلية خاصة بها، وتقوم على الاختيار والاستبعاد، على اشتمال كل ما هو جوهري وأساسي في تكوين البنى أو الأشكال أو الصيغ الكلية، وعلى ترك كل ما يتناقض مع هذه البنى، أو يعمل ضدها فتتجاهله. لكنّ ما يستبعد، تكون استجابته ضعيفة، وتتجسد في اللاوعي، وهذا ما وجد تجسده في قول محمود درويش «أرى ما أريد».
عندما يستجيب القارئ للشعر والأدب، فإن ذلك يكون بواسطة الصور الصوتية، وينشئ في بنيته المعرفية صورا عقلية متنوعة، هي تناظرات عقلية مفاهيمية أخرى، فالشعر يبدأ بالشيفرة الصوتية للكلمات، لكنَّ جانبا كبيرا منها يُفهم، ويتم تذوقه فقط، عندما تتحول الكلمات إلى أصوات داخلية، بنى موسيقية، وصور عقلية مناظرة لها، وهذا ما يؤكده العديد من الشعراء المبدعين بالقول، إنّ القصيدة تبدأ أصواتا داخلية، تستجيب لها معان مناظرة، بما يكون الشاعر يعاني(9) منه، فيسعى إلى التعبيرعنه، والاستجابة له من القارئ تكون أجدى عندما تجد ما يلائمها في مخططاته المعرفية، هو التعميم الذي قالت به نظرية الجشطالت، أما ما لا يوجد له بنى معرفية في البنية العقلية، فالاستجابة له تكون ضعيفة، وهذا أحد أسباب الغموض في الشعر الحديث.