المجموعة القصصية "حاول مرة أخرى"، للكاتبة الإماراتية ميرة المنصوري، الصادرة عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، نقرأ من أجواء هذه القصص: " لاحظت التغيرات الجديدة عليه، بدأ صوته ينخفض كلما تحدث في الهات
أنت هنا
قراءة كتاب حاول مرة أخرى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الصبر والجبر
أشرقت شمس الصباح نشيطة كالعادة وملأت الأرض بنورها ودفئها، هبّ النسيم البارد ليداعب شعري.
تنشقت الهواء بعمق وملأت صدري به. كانت البيئة القروية التي نعيش فيها هادئة جميلة لا يسمع فيها إلا صياح الديك مؤذناً أو نباح الكلاب من بعيد. كنت أسكن بالقرب من جارتي (أم ناصر) التي لم تكن مجرد جارة بل صديقة وأختاً عزيزة. تميزت أم ناصر بالرشاقة والجمال، كانت فارعة الطول، شعرها ينسدل من خلفها كالستار فيتماوج يميناً ويساراً، عيناها حوراوان لم تخلوا يوماً من الكحل الأسود بالرغم من تكرار الأحزان لديها.
أصابع يدها مخضبة بالحناء التي زادت بشرتها البيضاء جمالاً. وكانت أم ناصر عذبة اللسان، لا تسمع منها إلا كل جميل وحسن. مبرومة الأعضاء من ينظر إليها يعجز عن تحويل بصره إلى شيء آخر. كانت ذات حسن وجمال، رقبتها طويلة توحي بالعنفوان والإباء، جيدها تشرق منه الشمس. وبسبب قربي من بيتها، كنت أسمع هدير الطاحونة التي تطحن فيها الحبوب لتعد وجبة الإفطار. كانت حياة أم ناصر جميلة يلفها دفء المحبة والألفة مع زوجها وأولادها وجيرانها. مرت الأعوام على أم ناصر وهى تنعم بحياة سعيدة لا يشوبها هم أو حزن.
كبر أولادها، وهاهو ناصر ابنها البكر قد بلغ من العمر الثالثة عشرة، أصبح فتياً مفعماً بالنشاط والحيوية، وقريباً سيبلغ مبلغ الرجال. أخذت تتبعه بنظرها، وتنظر إليه بكل حب وحنان وعطف. ولدته بعد عشر سنين من الانتظار والشوق والحنين، لتشعر بالأمومة وتسعد بها.
في مساء أحد الأيام، جاءها وقبّلها كعادته دائماً. قال لها: أمي.
ردت عليه بكل حب: لبيك يا ناصر. قال لها: أمي أنا سأموت. قالت الأم بدهشة ولوعةٍ لا يا ناصر..... لا..... لا تقل هذا الكلام.
ثم ضمته إلى صدرها وأخذت تلثم خديه، وتبكي كأنها أحست بشعور غريب لم تشعر به من قبل؟!!.
تكلم ناصر وكأنه يحدثها عن مكان بعيد: أنا سأموت، أرجوك يا أمي أن تعدي لي العصيدة التي أحبها. قالت الأم المسكينة وهى تمشي الهوينا ولا تشعر بما حولها كأنها في حلم أو غيبوبة، قامت وهي لا تقوى على حمل نفسها، وأخذت تعد العصيدة.
انتهت من إعداد العصيدة وغطتها، ثم جلست إلى جوار ناصر ووضعت يدها على رأسه، لا بد وأنه مريض، لم تشعر بأي حرارة تعتريه. فاحت رائحة العصيدة، معلنة بأنها جاهزة للأكل. لم تكن اللحظات التي مرت على أم ناصر بالسهلة، كانت تتحرك وتمشي وهي فاقدة الشعور بنفسها. وضعت العصيدة في طبق صغير وقربته من ناصر بعد أن وضعته في حضنها ثم ناولته لقمة من العصيدة، وما أن وضعت اللقمة في فمه، حتى شهق شهقة، ودخل في غيبوبة. لم يتسنّ الوقت لناصر ليذوق العصيدة التي يحبها، أمسكت به أمه وضمته إلى صدرها وأخذت تتلو عليه سورة ياسين لتخفف من وطأة النزع الأخير على ابنها الحبيب.
وما هي إلا دقائق حتى خرجت الروح الطاهرة إلى بارئها، أغمضت أم ناصر عيني ولدها الحبيب وتشهدت عليه.
كانت الدموع الحارة تسيل على خدي أم ناصر حزناً على فراق فلذة كبدها ولكن ما في اليد حيلة، فالقضاء هو قضاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مات ناصر..................................................................................................................................
سمعت الجارات بالخبر فجئن على عجل لمواساة أم ناصر التي كانت في حالة من الحزن والبكاء.
كانت دائمة الاسترجاع والذكر لم ينسَ لسانها ذكر الله، بالرغم مما أصابها.
مرت الأعوام على موت ناصر، وأم ناصر لا تفتأ تذكر ابنها الحبيب فتحتسب الأجر والثواب، لم تتذمر يوماً من قضاء الله، لأنها تعلم أن كل ما في الكون مسير بأمره.
حنكتها الحياة ولم تزدها التجارب والأحزان إلا قرباً من الله ، كانت تصف لصويحباتها مرارة فقد الولد وقد قالت لهن مرة إنها تقلبت في الأحزان واليتم والمرض، إلا أن فقد الولد صعب جداً وكأن فقده يترك جمراً متقداً داخل القلب، كلما خبت نيرانه يوقدها النسيم، كانت تقول (واصفة مرارة فقدها لابنها ): كلما مر اسمه على سمعي أشعر أنه لم يمت إلا البارحة وأخذت أتذكر حمله ورضاعه، و.................... و.................. و.................
بالرغم من مرور سنين طويلة على وفاته، إلا أن ذكراه تعيده إلى الحياة مرة أخرى بكل تفاصيلها كلما ذكر، تشتعل النيران في صدري من الحزن عليه، وبالرغم من وفاته إلا أن رائحة ناصر تحاصرني كلما تذكرته، ويخيل إليّ أنه مازال حياً، وأن أنفاسه تلفحني، إنني أشعر بقربه مني وأحس بدفء قبلاته ونعومة يديه اللتين كانتا تطوقان عنقي.
مرت الأعوام على أم ناصر، ورزقها الله ولداً وبنتاً، فرحت بهما كثيراً وتمنت من الله أن يمتع عينيها بهما. ملأت (رزنة) و(أحمد) البيت فكانت أم ناصر تقضي معهما كل وقتها.