المجموعة القصصية "حاول مرة أخرى"، للكاتبة الإماراتية ميرة المنصوري، الصادرة عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، نقرأ من أجواء هذه القصص: " لاحظت التغيرات الجديدة عليه، بدأ صوته ينخفض كلما تحدث في الهات
قراءة كتاب حاول مرة أخرى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
علامات الجمال بدت على محيا رزنة التي ورثت كثيراً من صفات أمها، شعرها الأشقر يتدلى على جانبي وجهها الجميل، عيناها عسليتان، رموشها شديدة السواد تصطف على أطراف عينيها وكأنها جيوش محتشدة، الأنف مستقيم، والخدود كأنها ورد يفوح منه الرحيق.
مضت السنوات مسرعة، وفي أحد الأيام ، جاءت رزنة في إحدى الأمسيات، وقالت لأمها: أمي أشعر وكأني سأموت. شعرت الأم بغصة في حلقها! قالت بخوف وحزن وقلق : هل هناك ما يؤلمك؟ هل تشعرين بشيء؟ قالت رزنة: أرجوك يا أمي، اطبخي لي عصيدة، ردت الأم وهي تذرف الدموع الحارة: حاضر يا رزنة. شعرت الأم باللوعة والأسى، وكانت تدرك في قرارة نفسها أن ما يمر بها وبأبنائها هو حقيقة لا مفر منها، وقامت متحاملة على نفسها لتعد العصيدة، كانت الأم المسكينة تتلفت بخوف وهلع وهي تنظر إلى ابنتها. تساءلت ما الذي يحدث؟ ولماذا تحدث الأمور معي بهذه الطريقة الغريبة؟ كانت الأفكار تتدافع في رأسها ودقات قلبها تتسارع استعداداً لساعة الصفر، حدثت نفسها، هل أنقلها إلى الطبيب؟ ولو حملتها وركضت بها، وماتت وأنا أجري بها، وتركتها تصارع الألم في لحظاتها الأخيرة ولم تذق ما تحب قبل أن تموت، (قالت لنفسها ): ساعدني يا ربي على اختيار الأنفع.
نضجت العصيدة، جلست الأم إلى جوار ابنتها رزنة وضمتها إلى صدرها والدموع تنهمر من عينيها وهي لا تستطيع السيطرة على نفسها، مسحت رزنة الدموع من عيني أمها، وقالت: لا تبكي يا أمي لا تبكي. غرفت أم ناصر العصيدة من القدر وأخذت لقمة لتضعها في فم رزنة. وما أن وضعت اللقمة في فمها حتى شهقت رزنة وأخذت تصارع الموت بيديها ورجليها، والأم المسكينة تحتضنها بكل قوة، وتقول لها: يابنيتي قولي أشهد أن لا إله إلا الله، وهي تكرر الشهادة بصوت مختنق، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، استكان الجسد وكف عن الحركة، حمدت الأم الله وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
هدأ الجسد الذي كان يملأ البيت والحقل بالصياح واللعب والضحك والغناء. حملت الأم الجسد الساكن، وخرجت به من المنزل، انسدل شعر رزنة وأخذ يتدلى بعد أن انحلت ضفائرها.
وضعت الأم رزنة على الأرض بعد أن تلت الشهادتين عليها وأغلقت عينيها وقبلتها قبلة الوداع. نادت زوجها بصوت خافت حزين، وعندما أقبل، وجد ابنته رزنة مسجاة على الأرض. صاح الأب مرتاعاً، ماذا حدث؟؟
ماذا جرى؟؟
رزنة ابنتي.
ظل الأب ممسكاً برزنة وهو يبكى ويصيح.
قالت الأم: يا أبا ناصر.......... لا تضيع عمل سنين في لحظة.
إن أولادنا أمانة أعطانا الله إياهم لنتمتع بهم زمناً ثم يسترجعهم متى شاء هم ونحن! الموت، كلنا له زائرون..... اصبر يا أبا ناصر....... اصبر لا حول ولا قوة إلا بالله إنا لله وإنا إليه راجعون. مضت السنوات مسرعةً على أم ناصر وهي ما تزال تتذكر فلذتي كبدها، وكيف قدر الله لهما هذا الموت الغريب. كانت تتساءل بينها وبين نفسها، لماذا ماتا بهذه الصورة الغريبة؟.
أهذا امتحان يا ترى؟؟
اللهم، يا رب العالمين، إن كان ما حل بنا امتحاناً من عندك لتختبر به صبري ورضائي بقدرك، فأنا صابرة محتسبة.!
وإن كان ما حل بنا سببه غضبك وسخطك، فاغفر لي يا رب العالمين اللهم إني أستغفرك من الذنوب والمعاصي، اللهم عوّضني خيراً، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها. اللهم إني أسألك الصبر والسلوان.
لم تكن السنون التي مضت على أم ناصر بعد وفاة ولديها، سعيدة فقد كانت أحزانها تتجدد مع شروق كل يوم جديد.
قال لها زوجها في أحد الأيام أم ناصر، أجابته: نعم. قال: إني أراك متعبة ولا بد من ذهابك إلى الطبيب، لقد ابيضت عيناك من فرط البكاء والنواح. أنا أخاف أن تفقدي بصرك كما أنك، هداك الله قد أهملتني، أنا بحاجة إلى وجودك إلى جانبي وقريباً مني لقد نسيت حقوقي يا أم ناصر؟! أخذت أم ناصر تتنهد ثم انخرطت في البكاء.
بعد دقائق كفكفت دموعها وقالت بصوت مبحوح: سامحني يا أبا ناصر فكل يوم يمر علي يذكّرني بهما، إنّ رائحتهما تملأ المكان وكل شبر في هذا البيت يذكرني بهما حتى الوجبة التي أعدها كل يوم تذكرني بهما سامحني يا أبا ناصر............... سامحني.
أنا الآن جثة بلا روح، لم أعد أستطيع أن أذوق لهذا الكون أيَّ طعم، إنني أتمنى أن يعجل الله بموتي فأكون قريبةً منهما. قال أبو ناصر بلطف وحب، إن الموت حق على البشر أجمعين، حتى أن أفضل البشر محمد صلى الله عليه وسلم قد أدركته المنية.
ونحن جميعاً مآلنا إليه. فلماذا تذرفين هذه الدموع ومن سيخلد على هذه الدنيا ومَنْ من البشر لم يذق مرارة فقد شخص عزيز عليه، استعيذي بالله من الشيطان الرجيم.
إن الله قد منَّ عليّ بأحمد وها هو قد ملأ البيت بالضحك واللعب والصراخ وسيكبر أحمد غداً وسيتزوج وسيملأ البيت بالأولاد والبنات وستصبحين جدةً وسيكثر الشعر الأبيض في شعرك وستكثر التجاعيد في هذين الخدين الجميلين.
ضحكت الزوجة الحزينة وضحك معها زوجها، ضم الزوج زوجته في حب وحنان قائلاً: لا تقلقي يا عزيزتي فقد قدر الله أقدار البشر وصرّف هذه الدنيا بخيرها وشرها.