المجموعة القصصية "حاول مرة أخرى"، للكاتبة الإماراتية ميرة المنصوري، الصادرة عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، نقرأ من أجواء هذه القصص: " لاحظت التغيرات الجديدة عليه، بدأ صوته ينخفض كلما تحدث في الهات
قراءة كتاب حاول مرة أخرى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
رفقة الأنس
كنت ومجموعة من رفاقي مولعين بالبحر وصيد السمك، كنا نقضي أمتع اللحظات هناك. وقد تستمر هذه اللحظات مدة أيام ونحن لا ندري شيئاً عن العالم من حولنا. لم تكن الرفقة التي التفت حولي بأحسن الصحبة، فقد كانوا رفاق سوء لم يأمروني يوماً بمعروف ولم ينهوني عن منكر ولم يزيدوني إلا انحرافاً وانجرافاً نحو الحرام. لم أكن ذلك الإنسان المستقيم قبل التعرف إلى شلة الأنس وما أن صرت واحداً منهم حتى وقعت في هاوية البركان، لم أستطع الابتعاد عنهم. كان وقت الصحبة مسلياً تنوعت فيه الهوايات والميول، فهم إما يمارسون المنكرات وإما يتعاطون المخدرات أو يبيعونها. لا تجد نفسك وحيداً ولا تشعر بأي فراغ وأنت قريب منهم، فهم يملأون فراغك بكل ما تهوى النفس من كل ما لذ وطاب، ولكن فيما يغضب الله، لم أجد نفسي إلا معهم خصوصاً عندما اختلفت مع أسرتي وزوجتي التي لم تتركني يوماً دون أن تمطرني بوابل النصائح والتحذيرات، لم أكن أجد إلا رفقة الأنس عندما أحتاج إلى دعم نفسيّ أو ماديّ. لم أجد أبوابهم يوماً مغلقة في وجهي وفي وجه من هم أمثالي، وكانوا على استعداد لاستقبالنا في أي وقت وفي أي ساعة ، لم أحتج منهم يوماً شيئاً وردوني صفر اليدين بل على العكس كانوا يعطونني دون حساب، كنت مقرباً منهم يسقونني الخمر مجاناً وأشم المخدرات مجاناً ويمارسون المنكرات معي مجاناً.
كنت أعود كل ليلة وأنا في حالة يرثى لها من السكر والعربدة، كنت أضرب الجدران من حولي وأصرخ بصوت عالٍ، كان الحي كله يعلم بقدومي، كنت أسب أبي وزوجتي دون حياء أو خجل. كنت أترنح يميناً ويساراً وكنت كثيراً ما أتقيأ على نفسي فيصبح شكلي ورائحتي لا يطاقان. وفى إحدى الليالي جئت إلى البيت في وقت متأخر وعندما دخلت جرى ابني الصغير يريد أن يقبلني، كان يبكي ويصيح بابا... بابا أزعجني صوته لأنه لا يطاق فانهلت عليه بيدي أضربه بكل قسوة وعنف، تداركته زوجتي المسكينة واحتضنته لتتلقى الضربات عنه، لم أكن شخصاً باراً بوالدي وبأولادي، لم أهتم يوماً بأمرهم ماذا يريدون أو ماذا يحتاجون؟؟
كنت في قرارة نفسي أكرههم، فقد حرموني الأموال الكثيرة التي يملكها أبي وكلما رجوته أن يعطيني منها، يقول لي إنه لن يعطيني منها وأنا أصرفها في معصية الله.
مازلت أتذكر قسوتي على زوجتي، كان وجودي في حياتها شكلياً، وزوجاً بالاسم فقط، الحياة معي جحيم لا تطاق، كيف تحملتني؟ كيف استطاعت الحياة معي؟. كان ابني الأصغر يصاب بنوبات رئوية حادة من الربو، فتسرع به في منتصف الليل إلى المستشفى، بينما أنا مستلق على السرير في سكر، إما من المخدرات وإما من الخمر.
كنت أظل أياماً في حجرتي غير مكترث للعالم حولي. في إحدى الليالي عند اجتماعنا أنا وصحبة الأنس، قضينا ليلة جميلة على شاطئ البحر مارسنا فيها مختلف الهوايات وفي غمرة السكر، وقد تناولنا المخدر أخذ عبيد القارب ذا المحرك وقام بتشغيله وأخذ ينادينا، هيا يا شباب سنقوم بجولة داخل البحر، دعونا نفرح ونمرح، كان عبيد في الثلاثين من العمر، ولد لأسرة فاحشة الثراء، توفي والده وهو صغير وتولى هو إدارة أموال أبيه عندما كبر، كانت شركات والده لا حدود لها من الإنتاج، وقد زادت أمواله في تجارة المخدرات.
كان عبيد زعيم صحبة الأنس وكان يحمل ملامح من الجمال والرجولة والقوة غير أن قلة الإيمان وقلة الصلاة والذكر بالإضافة إلى تعاطي المخدرات وتناول الخمر كل ذلك جعل منه هيكلاً عظمياً، شاحب الوجه وكأنه قد ذر عليه الرماد.
صاح عبيد بصوته المبحوح هيا يا شباب، ركبنا كالمجانين وأخذنا نتصايح كالكلاب المسعورة. انطلق عبيد بالقارب ذي المحرك في عرض البحر، وهو يضغط على دواسة البترول بأقصى سرعة، أخذ الهواء يضرب وجوهنا وملابسنا، كان القارب يصدر صوتاً قوياً مثيراً كلما شق عباب البحر بقوة.
كنا نغني في بهجة وسرور، نغني بأعلى أصواتنا ونجد متعة في مقاومة الهواء لأصواتنا ولكن حبالنا الصوتية فقدت قدرتها على العمل ربما من كثرة الشراب والغناء. لا أدري كم مضى على وجودنا في عرض البحر، ساعة، ساعتان لا أدرى فجأة انقلب القارب من شدة الصدمة طار القارب في الهواء وسقطنا معه، لم أدر هل أنا وحدي الذي نجوت؟ من سقوط القارب فوقي، لم أعد أسمع أصواتهم لقد اختفت. كان الوقت ليلاً لم أدر ماذا أفعل لم أعد أستطيع الرؤية كان كل ما حولي ظلاماً حالكاً. انشغلت بنفسي عمن هم حولي، صارعت المياه وأخذت أضرب بيدي بقوة لعلني أجد ما أتشبث به، لم أكن أجيد السباحة لا بد أننا توغلنا في البحر. كان لزاماً علينا أن نحارب الأمواج لنعيش، بدأ ماء البحر المالح يدخل أنفي وفمي ثم جوفي، انهار جسمي قاومت الماء وقاومت لعلي أنجو ولكن لا فائدة. لقد تعبت يداي وقدماي وشعرت بالإنهاك، لقد بدأت قواي تخور وأنا أحاول البقاء على السطح، بدأت أنفاسي تتقطع وبدأ جسمي يرتعش، أدركت أن النهاية قد حانت، أخذت أقاوم، وكنت كلما أحسست أن الأمواج تجرني إلى أسفل، أنتفض كالذبيحة التي تذبح، لأبقى على سطح الماء.
أخذت نفسي تحدثني:- ماذا ستفعل يا ماجد؟
إنك مسكين.
هل تعرف يا ماجد أن أسرتك ستحزن عندما تعلم بموتك؟
هل تعلم أن أباك سيحزن؟ هل تعلم أن أمك سينفطر قلبها من الحزن عليك؟ هل تدري أن زوجتك ستحد عليك؟
مسكينة زوجتك، هل تدري أن أولادك سيعيشون أيتاماً؟ وسيفقدون حنانك؟ ماذا ستفعل يا ماجد؟ أجبني لماذا لا تتكلم ؟
إنك الآن لا تصارع الأمواج ولكن تصارع الموت، تمنيت على نفسي أن تصمت هل هذا وقت عتاب؟ إنني في موقف لا أحسد عليه.
ترد نفسي بكل قسوة واستهزاء، هل وجدتك لأحدثك إنك نادراً ما تصحو لأحدثك، لقد أخمدت ضميرك وكرامتك بالمسكرات يا مسكين أنا حزينة لأجلك.
قالت لي نفسي مستهزئة، وهل تعتقد أنك ستموت بسلام، إن العذاب سيأتي مع موتك وليس الآن. شعرت ببرودة تسري في جسدي وبدأت قدماي ويداي تفقدان قوتهما وبدأ جسمي يغوص في الماء، شعرت ببرودة في رجلي اليسرى بدأت هذه البرودة تعلو حتى فخذي. تذكرت كلام أمي وهى تقول إن الموت يؤتى من القدم اليسرى فيدخل فيها وينتقل إلى الجسم لا بد أنه الموت. بكيت في نفسي وما ينفع الندم الآن لم يعد يهمني أمر أمي أو أبى ولا حتى زوجتي وأولادي بكيت على نفسي ، وندمت وتمنيت لو أن لي فرصة أخرى على هذه الحياة سألت نفسي ولمتها كيف سأقابل الله؟ أين أعمالي؟ أين صلاتي؟ أين جهاد النفس؟ ارتطم جسدي بشيء لا أدري لم يعد مهماً، ربما كان القاع؟
ناديت ربي أن يسامحني؟ هو الرؤوف الرحيم. حتى خاتمتي لم تشرفني، ليتنا متنا غير هذه الميتة. مت وأنا مخمور.وجسمي مليء بالخمر والمخدرات.
يارب سامحني، يارب سامحني. كانت عينا ماجد شاخصتين نحو السماء، حاول أن ينطق الشهادتين ولكن صوته خانه كما خانه أصحابه، وخانته صحته وقوته. قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيملَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌق: 22. صدق الله العظيم.