المجموعة القصصية "حاول مرة أخرى"، للكاتبة الإماراتية ميرة المنصوري، الصادرة عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، نقرأ من أجواء هذه القصص: " لاحظت التغيرات الجديدة عليه، بدأ صوته ينخفض كلما تحدث في الهات
قراءة كتاب حاول مرة أخرى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الأسنان البراقة
تقلبت في فراشي، شعرت بنعومة الفراش والأغطية من حولي ورائحة العطور الشرقية والبخور تعج بالمكان، كان الوقت ما زال مبكراً للنهوض من الفراش، قلت لنفسي لماذا لا أخلد إلى النوم؟ إن النوم متعة ما بعدها متعة، صدق من قال إن النوم سلطان!
سمعت وطء أقدام في الخارج لا بّد أنه صوت الخادمة الأندونيسية جاءت لتوقظ الأولاد ليذهبوا إلى المدرسة، كانت العاملة نشيطة، كعادتها كل صباح بالرغم من أنها آخر من ينام ، إلا أنها أول من يستيقظ.
كانت أرنا العاملة الأندونيسية في العقد الرابع من العمر ترى في عينيها الكثير من العذاب والألم والمعاناة تدل على قلة الأيام الجميلة التي عاشتها. عيناها غائرتان في تجويف جمجمتها مما يثير الخوف في نفس من يراها، ولكن بسمتها المرسومة على شفتيها تخفف من قبح شكلها. هل يا ترى كانت بتلك البسمة الدائمة على وجهها تريد أن تخفي عيب شكلها؟.
كانت أرنا مبهمة البشرة، اختفى لون بشرتها الأصلي وكأنها وضعت في عين الشمس فترة طويلة، تميزت أرنا بأسنانها البراقة، صفت بتنظيم دقيق، كأنها عقد من اللؤلؤ، تعجبت منها!.... وعلى قدرتها على المحافظة على أسنانها، بالرغم من الحياة القاسية التي عاشتها، كان حجمها صغيراً قاربت في حجمها أصغر أبنائي أحمد.
كانت أرنا متشققة الأطراف أصابت الفطريات أصابعها من كثرة التعرض للماء والغسل، قدماها منفطرتان من المشي والعمل. كلما نظرت إلى يديها وقدميها شعرت بتيار من الكهرباء يسري في جسدي. كان الأولاد يحبون أرنا فهي هادئة بشوشة مطيعة ومتقنة لعملها إتقاناً تاماً، في صباح ذلك اليوم كانت قد أعدت الفطور وجهزت ملابسهم المدرسية. سألتني نفسي: هل ستكونين يا ترى مثل أرنا بهذا النشاط والصبر، لو كنت في رحلة عمل خارج الوطن؟؟... لا لا هذا مستحيل؟!
لو تبادلنا الأدوار وكانت أرنا هي السيدة وأنا الخادمة هل سأخلص لها، لا لا.... لا لا أعتقد؟ دائماً أسأل نفسي لماذا كتب علي أن أكون أنا الخادمة؟
هل من الإنصاف أن أكون الخادمة، ستقتلني الغيرة، والحسد، والحقد. وتنعم السيدة أرنا بالراحة والرخاء، وأنا الخادمة أمسح وأغسل وأنظف القاذورات، لماذا.... لماذا؟ لماذا أعاني مع الغربة التعب والعذاب وضغط العمل.
كنت دائمة النصح لصديقاتي في سلوكهن نحو بيوتهن وأزواجهن، فأنصحهن بضرورة تفقد أحوال بيوتهن وأحوال أولادهن، كنت دائماً أقول لهن أن يخففن الأعباء على الخادمة؟ وأن تكون لهن بصمة وأثر وطابع خاص تتميز به في بيتها ومطبخها وطعامها، فلا تكون الخادمة هي محور البيت فتلقى جميع الأعباء عليها؟؟؟
لماذا الخادمة التي تتعب وتغسل وتطبخ وتكنس، أليست المرأة هي سيدة بيتها؟ لماذا لا تتحمل سيدة البيت أبناءها وتظل تضربهم بينما الخادمة المسكينة تضمهم وتحبهم وتلاعبهم؟ لماذا يحبون النوم مع الخادمة بينما لا يريدون النوم معنا؟
لماذا تترك الخادمة ترتب غرفة نومها وتبث طاقات الحزن في غرفة نومها، وتتركها تعبث وتفتش أدراج ملابسها الخاصة؟ لماذا تحرم الخادمة من كل ما تحب وتحصل السيدة على كل ما تريد من مجوهرات وملابس ونقود؟؟ لماذا....... لماذا؟؟؟
سألت نفسي كثيراً عن مدى قدرة هؤلاء العاملين على العطاء والإخلاص في العمل وهم يعانون فراق أهلهم وأوطانهم وأزواجهم وأولادهم كيف يتحملون العذاب والمعاناة؟
أخبرتني أرنا ذات مرة أنها تركت وراءها في بلدها طفلين أحدهما رضيع وبالرغم من وجودها إلى جواره في البلد نفسه إلا أنها ظلت في مكتب حجز الخادمات خمسة أشهر دون أن تراه أو ترضعه تنتظر دورها لعل أحداً يختارها، كانت خلال هذه الفترة مصابة بالحمى لامتلاء صدرها بالحليب.
لقد أبكتني قصتها كيف لم تستطع تقبيله أو شمه أو ضمه. كيف استطاعت أن تنساه؟ كيف صبرت بدونه؟ وهل ستراه عندما تعود؟ ربما مات؟
مسكينة أرنا وكيف استطاع هؤلاء العمال الصبر والحرمان والتحمل والفراغ والوحدة؟ ونحن لا نتحمل البعد والفراق، أو أبسط هفوة من صديق أو زوج أو ابن....
في أحد الأيام ، ذهبت برفقة إحدى صديقاتي إلى أحد الأعراس ولبسنا الفساتين والمجوهرات وبعد ليلة حافلة جميلة شاهدنا فيها العروس وأهل العروسين من رقص وغناء عدنا ونحن في أوج المتعة والنشاط، وعند اقترابنا من المنزل شاهدنا أضواء..... ودخاناً.... وسيارات إسعاف.... وسيارات إطفاء الحريق.......
أخذ قلبي يدق بعنف وقوة، حتى إنني لم أعد أستطيع السمع من شدة ضرباته.. نوره... ماذا جرى؟!
سألت صديقاتي من شدة الذهول؟؟ قالت لي لتطمئنني: خيراً.. خيراً إن شاء الله ، قلت لها: إنه ليس خيراً بل شر...
نزلت من السيارة بسرعة ، والذهب يصدر رنيناً، كلما تحركت شعرت أنه سيخنقني وكأنها أفعى التفت حول عنقي. بالإضافة إلى الفستان الذي يعيقني عن الحركة بذيله الذي يسحب على الأرض. اقتربت من المنزل، كان المنزل قد تعرض لحريق مخيف، النوافذ متكسرة من شدة الحرارة.... والأثاث مبعثر في كل مكان... يبدو أننا جئنا في آخر الفيلم؟؟ سألت رجل الشرطة وأنا أصيح: أين أولادي هل هم في الداخل؟! هل احترقوا؟؟ هل ماتوا؟؟... وكيف شب الحريق... أين أولادي؟.....
تمنيت في تلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبتلعني من هول الصدمة، لم أعد أستطيع حمل نفسي ووقعت على الأرض، ولم أعد أستطيع الحركة... ركضت نورة إليَّ وأمسكتني، وقالت لي: اطمئني.. اطمئني... لم أعد أسمع... وكل ما أستطيع قوله أولادي.. أولادي..
استيقظت على وقع الصفعة على خدي.. لقد ضربتني نورة بقوة على خدي لتوقظني من حالة الهذيان منى... منى.
أقول لك أولادك بخير... وهم في بيت الجيران... لم يصب أحد منهم بأذى لم أصدقها.. لم أصدق نورة التي لم تكذب عليّ يوماً.. صاحت. هيا استندي إلي.. قومي.. سنذهب لنراهم.. قمت بصعوبة... ومشينا إلى أن وصلنا إلى بيت جيراننا... وعندما فتحت نورة الباب جرى إلينا أحمد وإخوانه.. فلم أصدق ما أرى، قبلتهم وحضنتهم بحب وشوق وأخذت أبكي... وأشهق من شدة الفرح، هدأت وسكنت نفسي بعد أن اجتاحتني... الصدمة.
قالت نورة لي: منى اذهبي وبدلي ملابسك في غرفة جارتك أم عبد الله لقد وضعت لك ثوباً بسيطاً لتلبسيه، بدلاً من الفستان واخلعي هذا الذهب الذي لم تعودي تشعرين به... بعد هذا اليوم الحافل. ذهبت وغيرت ملابسي.. أحسست بالراحة.. حمدت الله... وصليت ركعتين شكراً لله.. لقد أنعم الله عليّ نعماً كثيرة... الحمد لله على خيره وشره.... كان يوماً مثيراً متعباً... سألت جارتي أم عبدالله ماذا حدث؟؟
كانت أم عبد الله تقدم لي القهوة برائحتها الزكية وذوقها الرائع.. قالت لي: لقد حدث عطل في أحد أسلاك الكهرباء ما أدى إلى حدوث انفجار في مكيف الهواء الذي سبب اشتعال النار.. ولولا أرنا... لأحترق المنزل بما فيه سألت أم عبد الله... وأين أرنا؟ أجابتني إنها في المستشفى ولم تصب إلا بحروق خفيفة....
سألت أم عبد الله برجاء: هل هي بخير؟...
قالت بكل تأكيد: نعم إنها بخير.
زرنا أرنا في المستشفى، ولم تكن كما اعتدتها متبسمة، ماذا حدث..؟.. لم تعد تبتسم، ولم تعد تتكلم... بعد ذلك عرفت السر...
كانت أرنا تضع طقم أسنان متحركاً.. وبعد أن اشتعلت النيران.. أخذت تجري وتساعد الأولاد في الهرب من الحريق وأثناء ذلك سقط الطقم المتحرك، ولم تعاونها النيران المشتعلة على العودة للبحث عنه.
ضحكت لـ أرنا وقلت لها... طقم الأسنان الجديد على حسابي.