رواية "امرأة من ظفار"، تفتحت أكمام مشتل أزهار بامتداد السهول والربى والتلال، ومن قمم الجبال حتى الوديان السحيقة كان ثمة عبير فواح يأتيك مع النسيم العليل، فتنبعث حلقات الشعراء يتبارون بـ «المشعير» والـ«دبرارت» مرددين أشعار الحب الرقيقة، وحكايات المحارب الحمي
أنت هنا
قراءة كتاب امرأة من ظفار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
(11)
أصابني إعياء شديد، تقيأت وكدت أقع من شدة الدوار، أحضر لي الجيران «معالجة شعبية» تفحصتني، وأكدت لي: «أنت حامل». كانت تلك مفاجأة كبرى لي، جاءت أمي من الريف، وزارني الأهالي والجيران، ثمة أمنيات ودعوات. حتى عقيد العسكر زارني وأطلق عياراً نارياً ثم همس في أذني:
- ثمة عقيد عسكر في الطريق، مشروع عقيد عسكر.
ثم أضاف:
- وربما نور ومحبة للجنوب والشمال.
قاطعه أبي:
- الجنوب دوماً نار ونور، ريح عاصف ونسيم عليل.
بدا واضحاً أن هناك خطابين. ولم أشأ أن يكون حملي موضوعاً لصراعهما، أشرت على علوان أن يسقي الضيوف القهوة العربية وكان ذلك يعني في التقاليد الشمالية انتهاء الزيارة.
رشف عمي عقيد العسكر قهوته ممتعضاً وهبَّ مودعاً.
عاتبت أبي بكلمات رقيقة. فقد كان واضحاً في «حدته» وافتقاده روح المجاملة.
ولكن أبي أوضح:
- أتكون مصادفة أن تحملا معاً؟
- أنا ومن؟
- أنت والجبل
- وهل يحمل الجبل؟
- أووه
- .....
كان والدي في هذه الأيام يطلق كلمات سحرية غامضة. كان يظهر ويختفي ولا أحد يعلم أين..؟ يصمت أياماً لا يكلم أحداً، فإذا ما جرؤ أحد أخوتي على محادثته قدحت عيناه شرراً وفي أيام أخر كان يبدو مبتهجاً وهو يلقي خطباً وعظات عن شعب ظفار العظيم، عن سمهرم وعاد وثمود والجبهة المتحدة، وشعب « واسنلي» عن بورسعيد، ووالدكم القائد الأسمر ناصر، عن جميلة بوحيرد وجمال، عن الخط القومي، والقومية العربية عن المحيط الهادر والخليج الثائر. وكلها أمور لا نعلمها ولم يوضحها أبي.
جاءني علوان بالهدايا متودداً وقال لي:
- أي اسم اخترته لعقيد العسكر؟
- قلت غاضبة:
- ابني لن يكون عقيد عسكر عند الحكام الظالمين.
- وما الذي تريدينه أن يكون، حلاّب بقر؟
كان ذلك يعني تعريضاً واضحاً بقبيلتي وقومي رعاة الأبقار. فأجبته:
- سيكون اسم ابني «سانلي».
- ومن يكون سانلي هذا؟
- إنه سيدك أحد آلهة شعب ظفار القدامى.
زمجر غاضباً:
- هذا شرك... هذا كفر.
وذهب إلى الفناء يدور كثور في الحلبة ويصرخ ويزمجر:
- هذا شرك... هذا كفر.
على هذه الحال وجده أبي، هدأ من روعه وشرح له بصبر:
- إن سانلي هذا لا يعدو أن يكون تراثاً وذاكرة في التاريخ، وأننا مسلمون، ولا نحتاج في هذا الصدد إلى شهادة من أحد.
آبَ علوان إلي كطفل وديع. مسَّد شعري والدموع تملأ خده، وأوضح لي بلهجة تصالحية:
- سانلي لا بأس ما دام سيولد مسلماً وعلى م...ذ...هـ...ب...ن...ا !
تعبت من هذا السجال فلم أجبه، كنت قد قررت أن أمر سانلي ابني لن يكون إلا في يدي.
كنت قد استمعت في كلمات مضطربة وغير واضحة عما يعنيه علوان بمذهبه. وكان يعني كما فهمت بعد سنين طويلة « المذهب الإباضي» الجليل والموقر.
لم يكن لعلوان أي ثقافة دينية، فلم يكن يحفظ مثلي أي آية من آيات القرآن ولم يكن يعرف الصلاة أو القراءة مثلي أو مثل بقية السكان، واندهشت حين سمعته يتحدث عن المذهب، وكنت قد خمنت أنه يشير إلى ديانة لا أعرفها، وحين سألت أبي عما تعنيه كلمة مذهب أحرج واضطرب، ولكن أبي عاد إلى مراجعه، وأكد لي أنه يشير إلى المذهب الإباضي الجليل، مذهب أهل عمان، ولم يضف شيئاً لأنه لم يكن يعلم أكثر من ذلك، بل ولا أظنه يود أن يعلم في هذا الصدد أكثر من ذلك.
بدأت بتمهل، وفي أناة أفهم بعض علوان، فهذا الفتى كان غنوصياً باطنياً. حمَّال أوجه، كلما فككت رموز وجه، ظهر آخر أشد غموضاً وانغلاقاً.
جاءني ذات يوم يسأل:
- أتحبين سانلي؟
- أيهما ابني أم الآخر؟
- الآخر.
- كلاهما.
- ولكن سانلي «الإله» ليس سوى صنم لا يضر ولا ينفع.
- ربما بعض ذلك صحيح.
- بل كله...
- ولكن سانلي لم يدَّع ذلك، أي أية ألوهية، وهو لم يصدر أوامر أو نواهي، ولكنه في تلك الأيام الغابرة كان يؤدي دوراً، أحبه أجدادنا، وأورثوه ذاكرتنا وحين جاء الإسلام انتهى الأمر وغدا سانلي طيفاً لطيفاً في الذاكرة، فهو لم يكن مجسماً في حجارة أو حديد، لم يكن وثناً ولا صنما ًولا ديانة، كان طيفاً لطيفاً كما وسن في طفولة ذاكرة شعبنا.
صمت...
غير أني كنت موقنة أنه سيفجر أمراً جديداً، وهذا ما فعله حين جاء إلى أبي يسأله ونحن نتحلق حول نار التنور نأكل السمك:
- أيلد الجبل يا عمي؟
فوجئ أبي فتملص:
- وهل تعترض؟
- ليس الجبل سوى حجارة.
- ألم تسمع العرب يقولون: «تمخض الجبل فولد فأراً»؟
- وهل سيلد جبلك فأراً؟
- جبلي سيلد ثواراً، أحراراً يفلقون الصخر ويصهرون الحديد، عندئذ لن يكون أمامك أنت وأبيك وعسكره سوى الفرار كفئران سفينة غارقة.
كان ذلك منتهى الجرأة من أبي.
وإشارة إلى أن شيئاً ما قد بدأ ينضج ويعبر عن نفسه بجرأة ووضوح.
توترت حلقة الشواء حول النار، وبدا خطاب أبي صادماً وعنيفاً، ولكن حقيقة الأمر أن أبي كان يرغب في إعلان ما هو متفق عليه مع رفاقه، وأعطاه علوان دون قصد الفرصة المناسبة.
تحسست حملي، وتساءلت في هذه الظروف المضطربة أين سيكون مصيري أنا وولدي سانلي. أي مصير؟ وأي حياة؟ وسط حرب بات من المحقق أن نيرانها ستندلع في أية لحظة.
لم يكن الأمر يروقني، فلم أتحمس كثيراً لاندفاعات أبي الوطنية، وكانت مناورات علوان تؤكد لي أنني أمام لغز عصي وأكذوبة كبيرة.