رواية "إيقاع العودة"؛ سيطر عليّ إحساس غريب لم أعرف ماهيته، كثير من الوجع يلازمني، وقليل من الملل يحاصرني، وعيناي مسكونتان بالتعب، أشعر بخدر كثيف يتسرب داخل جسدي، سرحت مع أزيز الطائرات المسائية، همست في أذن الليل قائلة: «تعال يا ليل خليك معايا عايز أشكي ليك
أنت هنا
قراءة كتاب إيقاع العودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
على صفحات النهر رأيت وجهي وبدوت كأني شخص آخر قلت لنفسي: «أنا لست أنا»..
في تلك اللحظات نسيت كل شيء حتى الوجع الذي لم يبرح جسدي مدة طويلة من الوقت، تأملت في حال الوطن الحزين المثقل بالجراح والإحباطات المتلاحقة واحداً تِلو الآخر. صوت حزين ومتقطع لطلمبة المياه يأتي من ناحية الضفة الأخرى للنهر يبدو كأنه في حالة انسجام تام مع حالتي.. تارة يؤرقني، و أخرى أتخيله يواسيني ويشد من أزري.
أيها النهر الذي يسكن الروح والقلب لديّ شوق وحنين جارف يشدانني إليك، سأعلق على جدران الوطن قصائد المنافي البعيدة ولوحات رسمتها يد الخيال، لا أزال أذكر كلمات جدتي حين كانت تقول لي: إنّ النهر هو رمز الحياة وشريانها النابض بالنسبة إلينا وعندما يتوقف عن الجريان تصبح حياتنا عديمة الجدوى.. وقبل أن أودعه للمرة الأخيرة قلت له هامسة:
«أتيت إليك أيها النهر لأودعك، أحمل على عاتقي عبء غياب طويل.. وبقايا روح منهكة، وقصائد تائهة ولوحات مبعثرة في المدن البعيدة».
تأملت ذلك المشهد الساحر الذي لم يفارق ذاكرتي طوال فترة ابتعادي عنه، حدقت إلى السماء الزرقاء.. يعلو صوت العصافير وهي تتسابق بفرحة غامرة في دروب الفراغ.. ما أروعه من مشهد! هكذا كنت أحدث نفسي الهائمة في البعيد..
هل صرت أدمن الوجع الذي يتسرب إلى دواخلي من كثرة حضوره الطاغي، هل كانت شهوة الغياب تغريني بالرحيل نحو دهاليز العالم غير المرئي؟
**********
بماذا تحلمين الآن يا صغيرتي؟ هل تشعرين بقربي منك؟ نبرات صوتك العذب تتردد في أذني، الصوت هو بوابة الدخول إلى غياهب الروح، وكما قيل في البدء كانت الكلمة.. لو أن المرض والموت يقبلان فدية لفديتك بروحي المعذبة، كانت روحك شفافة ونقية كحبات ضوء القمر، وضحكتك بريئة كلون الفرح في عيون الأطفال الصغار.
كنتِ تحلقين في البيت كالفراشة الصغيرة التي ألفت الرحيق والألوان، وكان البيت مفعماً بالحب والأمل.. كان وجودك كافياً ليمنحنا بهجة وسعادة لا تضاهيان ولا تعوضان، لاأزال حائرة حتى الآن كيف سأخبر والدتي بمرضك هذا؟ أيتهاء السماء امنحيني مشورتك وصبرك الجميل.
لقد كنتِ مسكونة بعشقك للرسم منذ نعومة أظفارك، ولم يخذلك طموحك على الإطلاق،كان الرسم والألوان ملهاة طفولتك.. أذكر أن والدتي كانت مبهورة بك عندما كنت تساعدينها في الأعمال التي تحتاج إلى لمسات فنية وجمالية..وكنت تدهشيننا برسومك المعبرة بالفحم على الجدار وأنت في سن صغيرة جداً.
كنت كثيراً ما أسأل نفسي في ذلك الوقت.. من علمك سر الرسم والألوان؟ كانت تسكنك روح فنانة منذ نعومة أظفارك.. أذكر عندما كنا جالسين في البيت ذات مرة وسألت أبي قائلة:
- من أي منفذ تعبر الألوان إلى ضفاف العين يا أبي؟ اندهش الوالد من سؤالك في ذلك الوقت، وأنت لم تتجاوزي الخامسة من عمرك، قال لك: من أين تأتين بهذا الخيال الواسع يا ابنتي؟ أقلب في دفاترك بعد أن منحتني ضوءاً أخضر للاطلاع عليها ونشرها، قلت لي إنها غير منظمة، وعليك ترتيبها بتتبع تسلسل الأحداث فيها..
في البدء كان اللون فصار بعدها للحياة قيمة ومعنى، هكذا كان مكتوباً في أعلى الصفحة ذاكرة اللون.. عندما أنظر إلى السماء أعرف علو اللون، وعندما أتمعن في الأرض أعي قيمة اللون، وعندما أتأمل الطبيعة الساحرة أكتشف جمالية اللون وسر الوجود.
مسكونة بعشقي للألوان منذ زمن بعيد.. في سن الطفولة كنت أجلس أمام ضفاف النهرأتأمل تفاصيله اللامرئية، تنفذ إلى أعماقي رائحته الزكية وهدير أمواجه الحالمة.
أغسل روحي بهوائه النقي، وأبلل وجهي من مياهه العذبة، أتكئ على وجعي ثم ألقي بأحزاني وشكواي وأوجاعي في داخله.. كانت تلك اللحظات تمنحني شعوراً بالرضاء وتغمرني بالسعادة والبهجة.. ليس هناك أجمل من الإبحار والسفر داخل دهاليز الروح في حضرة النهر الخالد.
جريد النخيل يتمايل بإيقاع منسجم مع صوت الريح الذي يهدهدها مثل الأم عندما تهدهد طفلها الصغير.. ووهج الشمس الذهبي يطفو فوق صفحات النهر، نسمات رقيقة من الهواء تصافح وجهي.. ألمح في الأفق البعيد الألوان الباهرة تتمدد في السماء الزرقاء، وتنساب بنعومة أمامي وأكاد ألمسها وأشعر بها طرية في راحة يدي، وقوس قزح يحملني معه بخفة أسبح في أروقة الفضاء الممتد، وأظل محلقة وهائمة في: