رواية "إيقاع العودة"؛ سيطر عليّ إحساس غريب لم أعرف ماهيته، كثير من الوجع يلازمني، وقليل من الملل يحاصرني، وعيناي مسكونتان بالتعب، أشعر بخدر كثيف يتسرب داخل جسدي، سرحت مع أزيز الطائرات المسائية، همست في أذن الليل قائلة: «تعال يا ليل خليك معايا عايز أشكي ليك
أنت هنا
قراءة كتاب إيقاع العودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ماريكا هي أول من تعرفت عليها في البناية التي أسكنها، قالت لي عند أول مرة نلتقي فيها عند مدخل البناية، أتمنى ألا أكون أزعجتك بالتمارين على آلة الكمان؟
- بالعكس من حسن حظي أن تكون جارتي موسيقية ماهرة مثلك، تروقني الموسيقى لدرجة أكثر مما تتصورين..
صوت الكمان الناعم وهو ينداح بعزفك المثير للإعجاب الذي يحرك الأعماق، شكل لي مساحة من الجمال والتأمل، كنت بحاجة إلى تلك اللحظات الناصعة الوضوح، وأنا مدينة لك بتلك القطع الموسيقية الباهرة التي تزينين بها أمسياتي.. ولا أخفيك سراً بأن وجودك شكل لي حافزاً لكتابات ورسوم مؤجلة منذ زمن بعيد..
منذ ذلك التعارف توطدت صداقتنا وجمعتنا أشياء كثيرة مشتركة، عشق الفن والموسيقى والأدب، كنا نتخاطب بلغتين، الإنجليزية والبولندية، وأذكر مدى سرورها عندما علمت أنني درست الفنون الجميلة في جامعة وارسو، ومن ثم انتقلت إلى جامعة روما لمواصلة الدراسات العليا في أكاديمية روما للفنون الجميلة..
ماريكا عازفة كمان محترفة، وعضو بارز في فرقة أوركسترا لندن السيمفونية، وتعمل أستاذة مشاركة في إحدى كليات الموسيقى بلندن.
قالت لي في إحدى المرات إن والدها مؤرخ وباحث في علم الآثار، ومهتم بشكل خاص بحضارة وادي النيل والحضارة السومرية، إضافة إلى كونه موسيقياً من الطراز الفريد يجيد العزف على عدد من الآلات الموسيقية، ومن هنا كان شغفها وولعها بالموسيقى منذ نعومة أظفارها.
قال لي عامر ذات مرة: لو لم تكن صديقتك ماريكا موسيقية محترفة لكانت ممثلة سينمائية أو عارضة أزياء عالمية، فقد كانت آية من الجمال والوسامة، وذات قوام فارع.
هادئة الطباع، وقلبها نقي، كالأطفال الصغار.. روحها تشع إشراقاً ومحبة للآخرين، كانت الموسيقى حبها الوحيد في هذا العالم..
قلت لها ذات مرة إنّ مجاورتي لك في السكن تذكرني بقصة الرسام الايطالي كوستا لورينزو الذي عاش في عصر النهضة، وحكايته الشهيرة مع جيرانه عائلة بارتولوميو، فقد كان أبناؤهم الثلاثة موسيقيين مهرة، يؤانسونه بطربهم وعزفهم، ويجعلون الساعات الطوال التي يرسم فيها قصيرة، وفي إحدى المرات أسرفوا في الغناء والسهر لدرجة أنه لم يستطع النوم، وفي اليوم التالي حضروا إلى بيته واعتذروا منه بلباقة، وعزفوا أمامه القطعة الموسيقية الغنائية التي تمرنوا عليها، وضمنوها مقطعاً مدحوا فيه الرسام كوستا، فقبل اعتذارهم، وأحضر عدة الرسم ورسم لوحته الشهيرة (الجوقة الموسيقية) وكانت من أعز إنجازاته لنفسه..
قالت لي ماريكا: في هذه الحالة إذاً أنا المحظوظة كوني أصبحت جارتك.. قلت لها: ما أجمل تواضعك وبساطتك يا صديقة.. ذهبنا وجلسنا عند الشرفة.. كان الطقس رائعاً في ذلك اليوم، وتمتعنا بمشهد الطائرات العابرة التي كانت تجوب الفضاء، أعجبها بشدة ذلك المنظر الجميل المطل على الحديقة..
قالت لي: أن تسافري شيء، وأن تتأملي السفر من هذه الزاوية ومن عدة جهات شيء آخر.. للسفر متعة خاصة لا تضاهى، بالذات تلك الأمكنة الجديدة التي لم ترها الأعين من قبل..
- بوصفك موسيقية يا ماريكا أود أن أسألك سؤالاً؟ أكيد أنك شاهدتِ فيلم تايتانك، ولا شك أنك تتذكرين مشهد بعض العازفين المؤثر وهم يواصلون العزف حتى اللحظات الأخيرة قبل غرق السفينة وسط الصراخ والعويل..
منهم من هرب بجلده ومنهم من ظل صامداً حتى النهاية.. هل مشهد العزف في ذلك الوقت مقنع من وجهة نظرك؟..
- أتذكر ذلك المشهد، فقد كان مؤثراً جداً، وملاحظتك دقيقة جداً.. أعتقد أن العازفين كانوا في حالة انسجام تام وتماهٍ مع العزف، ورغم علمهم بمصيرهم القادم لكن لا شيء سيوقفهم عن مواصلتهم ذلك؛ الموسيقى حالة انتقال واستمرارية، وعندما تبدأ المقطوعة على خشبة المسرح ينبغي أن تستمر حتى النهاية.. في كثير من الأحيان عندما يحتضن العازف آلة الكمان يغمض عينيه ويرتحل محدقاً إلى البعيد ويغيب عن عالم الواقع.
- كأن الموسيقى تمثل لهم اليقين وفعل الخلاص الأبدي..
سألتني ماريكا عن سبب حضور النهر الكثيف في لوحاتي وقصائدي؟
سرحت فترة من الوقت ثم قلت لها:
- النهر هو كل حياتي يا صديقة، عندما كنت صغيرة أحببت هدير أمواجه الصاخبة ونسائم رائحته العبقة التي كانت تسكن أعماقي، وتتغلغل داخل روحي، فهو أسطورة حية منذ آلاف السنين نراه يتمدد أمامنا ونسبح في حناياه من خلال الواقع والخيال والحلم.. فقد كان النهر مصدر إلهام ووحي للشعراء والفنانين والكتاب والفلاسفة والمتصوفين.. نظرة واحدة إلى النهر والتأمل فيه بعمق قادرة أن تنسي الإنسان كل هموم الحياة وصخبها.. رائحة النسيم المنبعثة منه تكاد تسكر الروح وتجعلها منتشية ومحلقة في عوالم من الدهشة..
كانت جدتي امرأة بارعة في السرد والحكي عن الأساطير وأسرار النهر، وقد تركت أثراً كبيراً في تكويني الشخصي، كنا نعيش داخل عوالم سردها الساحرة والأسطورية وننفصل عن هذا العالم.. هكذا خرجت من رحم كل تلك الأجواء البسيطة النقية..
رغم المسافات الطويلة التي تفصلني عن ضفاف النهر، إلا أنه حاضر في بكثافة لكأني لم أغادره قط، أشعر به أمامي في كل وقت وأحمله معي في دواخلي أينما حللت وذهبت..
كل تلك البدايات مجتمعة تركت الأثر الكبير في تكويني أعبر عنها بفرشاتي وأترجمها في أعمالي الفنية أو عبر القصائد، وكثيراً ما تتداخل الأفكار بعضها مع بعض، تترك اللوحة أثرها في القصيدة مثلما تترك القصيدة أثرها في اللوحة.. التلوين هو متعة النظر وراحة للنفس وبذرة الجمال الدائم الذي لا ينقطع، ولو جاز تصنيف أعمالي في مدرسة معينة قد تجدين فيها الكثير من التأمل والصوفية والسوريالية.. على الشخص المبدع أن يسعى بصفة مستمرة أن يتخطى ذاته ويسعى لخلق عالم متفرد ومتجدد..
- هل دراستك للفن في وارسو وروما أضافت إليك الكثير؟
دراستي للفن التشكيلي في وارسو ثم روما أفادتني كثيراً في مسيرتي الفنية، واستفدت كثيراً من أساتذة أجلاء وفنانين ورسامين كبار كان لهم الأثر البالغ في صقل موهبتي وتطويرها، لكن كما تعلمين فإنّ المدرس يصلك ببداية الطريق ويترك لك بقية الطريق لكي تجتازيه وحدك حسب أسلوبك وأفكارك وموهبتك وحدسك..
يقول الشاعر محمود درويش: كن النهر ولا تكن الماء تلك هي الخصوصية..