رواية "إيقاع العودة"؛ سيطر عليّ إحساس غريب لم أعرف ماهيته، كثير من الوجع يلازمني، وقليل من الملل يحاصرني، وعيناي مسكونتان بالتعب، أشعر بخدر كثيف يتسرب داخل جسدي، سرحت مع أزيز الطائرات المسائية، همست في أذن الليل قائلة: «تعال يا ليل خليك معايا عايز أشكي ليك
أنت هنا
قراءة كتاب إيقاع العودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أصبح الجلوس عند الشرفة وإطلالتها على خط الأفق جزءاً من طقوسي اليومية، كنت مشدوهة بسحر الأفق وروعة المنظر البديع.. أتمعن في ذلك الدرب المخملي الفسيح الذي يؤدي إلى عالم آخر مجهول الملامح أتوق إلى معرفة خباياه وأسراره.. في بعض الأحيان، أتخيل نفسي أتسلق الغيوم، وأسابق الريح، وأقذف بنفسي في ذلك الأفق السرمدي.
كم هو واسع هذا الكون؟ ماذا نساوي نحن أمام النجوم والكواكب؟ لا شيء.. لا شيء.. كم أشعر بضآلة شديدة وأكاد أخجل من نفسي.. في لحظات السكون الخالدة تلك كان صوت الشيخ عبدالباسط عبد الصمد وهو يرتل آيات من الذكر الحكيم صوتاً عذباً ترق له القلوب..
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
تأملت برهة في ذلك الفضاء الشاسع ثم سألت نفسي: هل سأركب إحدى تلك الطائرات في القريب العاجل وستكون رحلتي الأخيرة؟
كنت بصدد إكمال قراءة كتاب خارج المكان لإدوارد سعيد.. عنوانه يتناسب مع حالتي هذه تماماً، لكنني كنت متعبة الذهن والجسد، شعرت بنعاس شديد وتهت في دهاليز إغفاءة عميقة لم أفق منها إلا قبل لحظات قليلة من شروق الشمس.
نسائم الصباح الجميل صافحت وجهي برقة وعذوبة، استنشقت عبق الأزهار المرصوصة على حافة الشرفة والمغسولة بقطرات المطر.. أطلت جارتي اليونانية كاليستا من على شرفتها المجاورة باسمة ومشرقة كـلون الصباح الربيعي.. كان يجمعنا معاً عشق الزهور والنباتات الطبيعية، وقد كان لها باع طويل في هذا الشأن لا أجاريها فيه.. تتحدث عن الزهور بحب بالغ كأنها أبناؤها الصغار.. أتذكر مرة في إحدى زياراتي لمدينة أمستردام في موسم الربيع الماضي، أحضرت لها هدية عبارة عن بذور من الأزهار التي تشتهر بها هولندا.. كانت فرحتها بتلك الهدية لا تحدها حدود، وبعد فترة من الزمن قالت لي:
- أنظري إلى تلك الزهور التي جلبتها لي من أمستردام كم كبرت وتفتحت.. يمكن القول إن شيئين لا ينافسها فيهما أحد، حب البشر وحب الزهور..
حدثتني كاليستا في ذلك الصباح عن زهرة الأوركيد، أجمل زهرة في الوجود حسب وصفها، وأعطتني نبذة فخمة يمكن أن تكون محاضرة كاملة المحتوى في علم الأزهار، وعن تاريخ زهرة الأوركيد الذي يرجع إلى سنة 700 قبل الميلاد عند الصينيين، ولم تنس أن تخبرني كيف دخلت زهرة الأوركيد إلى أوروبا عبر هولندا في القرن الـ 17، ومنها انتقلت إلى بريطانيا وبقية الدول الأوروبية، وكانت تزرع في الحدائق الملكية..
وختمت حديثها عن جاذبية الأوركيد وجمالها الطبيعي الذي يمتاز بالغرابة والدهشة في آن واحد، أليس كذلك يا هاجر؟ أنتِ فنانة تشكيلية تفهمين أكثر مني في هذه الأشياء..
تريد أن تدخلني جو حديثها العذب.. أجبتها: إنني أسمعك بكل حواسي يا كاليستا..
ودعتني بعد أن قالت لي ضاحكة: تريدينني أن أتحدث حتى أطرد من العمل اليوم بسببك، وبسبب زهرة الأوركيد، أراك لاحقاً عند المساء يا صديقتي لنتناول معاً شاي الياسمين..
كان لكاليستا طقوس رائعة تعرفها وحدها، مثل طقس الشاي بنكهة الياسمين، والشاي الأخضر.. يمتاز شاي الياسمين بنكهة زكية جداً إضافة إلى فوائد أخرى كثيرة.. كانت كاليستا في غالب الأحيان تدعوني لمشاركتها في الاحتفاء بهذا الطقس المحبب إليها، بل أكثر من ذلك لقد شجعتني على تعوُّده وخصوصاً الشاي الأخضر..
قلت لها ذات مرة: الآن فقط عرفت سر رشاقتك وحيويتك الزائدتين.
ردت قائلة بخفة دمها: أعطيني نفسك شهراً، وسوف أجعلك أنحف مني بخمسة كيلو غرامات.. قلت لها: لو كان الأمر كذلك فسأعطيك نفسي لمدة شهرين.
في فصل الصيف كانت كاليستا تنظم يوماً ترفيهياً لسكان البناية، تجمعهم في الهواء الطلق بالحديقة الخضراء تحت خيمة حب وفرح كرنفالية.. وتقوم بتسلية الأطفال الصغار ببرامج ترفيهية متنوعة تستمر حتى مغيب الشمس، لِذا لا يملك الصغار إلا أن يتحلقوا حولها ويحبوها بشدة لأنها تغمرهم بحنانها وعطفها. قدمت كاليستا اقتراحاً بتنظيم رحلة جماعية لمدة أسبوع داخل أو خارج البلاد وذلك لخلق مزيد من التواصل ونوع من التغيير. كانت تتمتع بشخصية اجتماعية بامتياز متعددة المواهب ومتفردة الخصال، لها روح مرحة ومحبوبة.. جميلة كمعنى اسمها الذي يحمل الجمال الإغريقي العتيق الذي يسمع عنه بين صفحات الكتب والأساطير اليونانية القديمة، كاليستا امرأة من نور وضياء وعبق السوسن وخلاصة الزهر والياسمين..
ضباب أبيض شفاف ينبعث من الأرض يرتفع ويتراقص في الفراغ وسط الحديقة الخالية إلا من النوارس البيضاء.. بعض العجائز يمارسن رياضة السير الصباحي المعتاد، كنت في بعض الأحيان ألتقيهن فيسألنني عن أحوالي حتى صرت أعرفهن بعد ذلك، وتوطدت علاقتي بهن.. سألتهن عن السيدة أنوش الأرمنية.. فقلن لي إنها ذهبت لزيارة ابنها في أستراليا ولم تعد حتى الآن، وعلقن مازحات: ربما طاب لها البقاء هناك بدلاً من هذه البلاد الباردة..
كنت أجلس معها ساعات طويلة على أريكة الحديقة تحت أشعة الشمس الدافئة.. كم أشتاق إلى الحديث معها.. ذكرت لي مرة أنها غادرت بلادها منذ أكثر من سبعة عقود ولم تعد مرة أخرى إلى هناك..