رواية "إيقاع العودة"؛ سيطر عليّ إحساس غريب لم أعرف ماهيته، كثير من الوجع يلازمني، وقليل من الملل يحاصرني، وعيناي مسكونتان بالتعب، أشعر بخدر كثيف يتسرب داخل جسدي، سرحت مع أزيز الطائرات المسائية، همست في أذن الليل قائلة: «تعال يا ليل خليك معايا عايز أشكي ليك
أنت هنا
قراءة كتاب إيقاع العودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ذاكرتها حاضرة وصافية جداً، تحكي التفاصيل بدقة تحسد عليها وكأنها تتحدث عن أشياء حدثت يوم أمس القريب، لها موهبة فائقة في الحكي.. كنت أظل مشدوهة بالاستماع إليها بكل حواسي، وأرى ما تقوله أمامي كأنه شريط سينمائي جيد الإخراج.. كانت حكاياها مأخوذة بسحر وجمال السرد وروح الأسطورة، أذكر جملتها الأخيرة في آخر مرة كانت تتحدث فيها عن وطنها الذي لم يفارق مخيلتها قط قالت:
- الوطن هناك تحول في وقت من الأوقات إلى سلسلة من الفواجع والمآسي التي لا تحصى ولا تعد.. كنا نحن الأحياء بحاجة إلى ترميم خرابنا، وإلى يقين يجعلنا نتماسك أمام وجه الانهيار والانكسار الكبير..
كان لسان حالنا يردد في ذلك الوقت:
أيها الوطن الضائع، من سرق منك طفولتك العذبة وأحلامك الوردية البريئة؟
هناك سؤال ظل يدور في ذهني مدة من الوقت، وكنت قد أجلته مرات كثيرة.. إلا أنه خرج هذه المرة من لساني بدون تردد:
- هل شاهدت أحداث المجزرة هناك، يا جدة أنوش؟ صمتت فترة من الوقت ثم أجابتني بعد أن مسحت الدموع من عينيها:
- نعم شاهدت تلك الأحداث هناك ولولا تدخل العناية الإلهية لكنت في عداد أولئك الضحايا..
ولا أخفيك أنني أشعرأحياناً أنني توفيت منذ تلك الأيام، وكل حياتي هذه مجرد استثناء ومنحة ربانية، لقد كان شعبنا يقتل ويذبح على مرأى ومسمع من العالم دون أن يحرك أحد ساكناً، والمؤلم أن الأمر يتكرر الآن في مناطق عديدة في العالم من دون أن تعي البشرية الدرس أو أن تستفيد من تاريخنا الحافل بأنهار الدماء والضحايا.. قيمة الإنسان أصبحت رخيصة يا صغيرتي في هذا الكوكب الهمجي، ولم يعد لها شأن.. في هذا العالم البغيض غاب صوت العقل والضمير والأخلاق، ولا تسود سوى ثقافة الانتهازية والخداع والانحطاط..
عندما غادرنا مدينة يريفان كان عمري حوالى سبع سنوات، عشنا قرابة عقدين من الزمان في مدينة حلب السورية بعد أن وصلنا إلى هناك بأعجوبة أو يمكن أن تسميها معجزة.. المفارقة أن المدينة نفسها التي احتضنتنا عقدين من الزمان تعاني الآن المصير البائس نفسه الذي لاقيناه في بلدنا الأم.. لكأن الشقاء والتعاسة يلاحقان الإنسان أينما ذهب، أشعر من هنا كأن المدينة تكاد تصرخ من هول الدمار والخراب، قائلة في وجه آلة الحرب الدموية: أبعدوا هؤلاء القتلة عني.. لا شيء يردع غرور الإنسان وتسلطه سوى الموت.. حين تمتلئ عيناه بالتراب حينئذ سيعرف قدره تماماً.. قلت لها إنك محقة في قولك وللأسف نقف عاجزين أمام هذه المشاهد الجحيمية، لكن سينتصر الحق في آخر المطاف.. كل نقطة دم تسيل على هذه الأرض تؤكد شيئاً واحداً، وهو أن البشرية في ورطة كبيرة لا تحسد عليها..
- ما أقسى الحنين والشوق إليك يا حلب! مدينة تسكن الروح وتتغلغل في الأعماق، تحلق بي ذكريات كثيرة هناك في مدينة حلب الشهباء لاأزال أحملها في ذاكرتي حتى الآن، فهي المدينة التي نشأت فيها ودرست في مدارسها وصرنا جزءاً من شوارعها وأزقتها العتيقة.. هل قرأت ما قاله الأخطل الصغير عن مدينة حلب؟
لو ألف المجد سفراً عن مفاخره لراح يكتب في عنوانه حلبا
- لم أسمع بهذا البيت الشعري من قبل، لكن أعرف أنها مدينة ملهمة للكثيرين من الشعراء..
لقد زرت مدينتَيْ دمشق واللاذقية عدة مرات، لكن للأسف لم تتح لي الفرصة لزيارة حلب..
- لقد عانيت الغربة في حياتي يا صغيرتي على جميع الصعد، غربة الروح والمكان، ولا أود أن أعانيها في موتي لذا طلبت في وصيتي أن أدفن في بلدي الذي أشتاق إليه الآن أكثر من أي وقت مضى، إذا لم تتح لي الفرصة أن أعيش فيه طوال حياتي السابقة، فأود فقط أن أدفن في ترابه.. ساد الصمت، ولا شيء غير الصمت الحزين..
نظرت إلى أغصان تلك الشجرة الكبيرة التي كنا نستظل تحتها.. سألت نفسي هل تعلم هذه الشجرة مدى عذابنا في هذه الحياة؟
وكأنها علمت ما كان يدور في ذهني في تلك اللحظة فقالت لي:
- هل تخاطبين الأشجار يا صغيرتي؟
ابتسمت وقلت لها: ما أصدق حدسك.. نعم يا جدة أنوش كنت أخاطب الشجرة، قلت: ليتني كنت ورقة خريف سقطت من ذاكرة الضوء وحسابات الأشجار..
قالت لي بعد أن تمعنت في الأفق البعيد والسماء الزرقاء مدة من الوقت:
- تسعة وسبعون عاماً في هذا العالم.. لم أنظر إلى هذه السماء كما نظرت إليها هذا اليوم..