في كتاب «الأرض الطيبة»، تتمازج كل هذه الطرق ليكون ما فيها، في الواقع، واضحاً لا لبس فيه.
أنت هنا
قراءة كتاب الأرض الطيبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تل عباس عبر الزمن
تل عباس الغربي، بلدة قديمة، وقد تعرّضت خلال تاريخها الطويل إلى العديد من التقلبات، والشاهد على قدمها اسمها «دابورة تل عباس» كما سبقت الإشارة.
إن فقدان الوثائق التاريخية يشكل عقبة في وجه التأريخ، تدفع بالكاتب إلى اعتماد مصادر أخرى لعل أهمها الأحاديث المنقولة من جيلٍ إلى جيل على الرغم مما يعتري هذه الأحاديث من تحوير في بعض الأحيان.
بالإضافة إلى ذلك، لا وجود لمعالم أثرية فيها، إلّا أن هذه البلدة قد ذكرت في الأرشيف العثماني منذ القرن الخامس عشر.
بكل تأكيد، لقد شهدت البلدة تطوراً منذ العهد العثماني ولنقل منذ أواخر العهد العثماني لأنّ كبار السن الذين ننقل عنهم معظم المعلومات قد عايشوا تلك المرحلة، مروراً بعهد الانتداب الفرنسي وصولاً إلى الاستقلال، وهذا التطور كان على كل المسارات الروحية والتعليمية، والتجارية، والزراعية والسياسية والعمرانية والاجتماعية.
الوضع العمراني والاقتصادي
في البداية، استوطنت البلدة عائلات لم نعد نعرف عنها شيئاً، كالصافي والمصومعي وهلالي وتوما ونصار وغيرها، وكانت تلك العائلات تقيم في منازل متلاصقة مبنية من الحجر البركاني الأسود ومسقوفة بأغصان الأشجار والتراب وكانت تلك المنازل سميكة الجدران، ويبدو أنها كانت أكثر انسجاماً مع البيئة لأن تلك البيوت، التي لا يزال بعضها قائماً حتى الآن، تخفف وهج الحرارة في الصيف، وقساوة البرد في الشتاء، وكانت الأزقة فيها تكاد لا تتسع إلّا لمرورشخص واحد ودابته.
لم تكن تربط البلدة بالجوار طرقات بل كان ثمة ممرات ترابية للدواب من حمير وبغال وطنابر وجمال، التي تشكل مجتمعة وسائل النقل في تلك المرحلة.
وتطوّر هذا الوضع نسبياً بعد تملك آل عطية لتل عباس غربي مع بعض العائلات الأخرى، إذ عمد بعض «الأفندية» إلى بناء الغرف لإقامتهم فشهدت البلدة مادة «الباطون» في تلك الحقبة، وصار حلم الناس فيها أن تكون لديهم غرف مشابهة سهلة التنظيف، ناعمة الملمس، عوض المنازل التي تتصف بالخشونة، ومن هذه الغرف ما يعرف بدار «الأوضة».
لقد كان كل بيت من بيوتها مقسماً من الداخل إلى ما يسمى المصطبة وهي مكانٌ مرتفع نسبياً، مخصص للعائلة، يجاوره مربط البقرة خصوصاً في فصل الشتاء، بالإضافة إلى جزءٍ منه تجمع فيه المؤونة وأدوات الطبخ، من طناجر نحاسية وأوانٍ فخارية.
وكان أمام كل منزل، مربط صيفي للبقرة، وموقد يتألف من حجارة توضع على شكل مثلث لتتمكن من حمل ثقل «الطنجرة» أو «الدست» أو «اللكن»، وكان الوقود يتألف من الحطب ومن روث الحيوانات أو ما يعرف «بالجلّة».
أما الحياة الاجتماعية، فقد اقتصرت على السهرات على ضوء «سراج» أو «قنديل»، وكانت تقضى بالحكايات وقراءة سيرة الزير وعنترة وألف ليلة وليلة.
ومنذ أن تملك آل عطية معظم أراضي البلدة، أخذوا يديرون عجلة الحياة فيها على هواهم، أمّا الأهالي الذين كانوا يشكلون في الواقع جزءاً من الآلات في يد «الأفندية» إلّا أنها آلات حيّة، تستطيع أن تئنّ من التعب، فقد كانت تتألم وتعرق وتشقى، إذ كانت تعمل بصبر وجلد، أدواتها الزراعية، صمدٌ ومسّاس ومجرفة، ومنجل، ونورج، بالإضافة إلى الثيران والبغال والحمير والجمال. هؤلاء الأهالي كانوا يشعرون بالظلم فتولدت في نفوسهم مع الزمن نقمة داخلية.
كانوا يحسّون بالظلم وينتابهم الشعور الحقيقي بالرغبة في الوصول إلى حياة أفضل، خصوصاً عندما كانوا يقومون بزيارة بلدة بينو فيجدون المنازل النظيفة الفخمة التي بكل تأكيد بني جزء كبير منها من عرقهم هم، لأن ثمار الأرض التي كانوا يزرعون، كانت تجتمع في يد «الأفندية» الذين تمكنوا من إقامة المنازل الفخمة، واقتناء الأثاث الفاخر، كما تمكنوا من متابعة حياتهم التعليمية في سائر مجالات الحياة، وقد توصل أهالي بينو من آل عطية إلى مراتب علمية متقدمة في وقتٍ مبكر، ولعل معظم ما توصلوا إليه من علم ورقي ومراكز مؤسَّسٌ على الوضع الاقتصادي الجيد الذي تمتعوا به، معتمدين على زنود أهالي تل عباس غربي وعرق العمال والفلاحين فيها.
إن ملاحظات فلاحي تل عباس لم تبق مجرد ملاحظات بل بدأت تتحول إلى سببٍ أساسي دفعهم إلى التفتيش عن الأفضل والسعي إلى مجالات أخرى، من هنا، سعى بعضهم باتجاه تأسيس المحال التجارية.
عندما تنشأ أية جماعة وتتكوّن بلدة أو مدينة، لا بد وأن يستتبع ذلك وجود أشخاص أو مؤسسات، تقوم بتأمين الخدمات والحاجيات، وهكذا عمد البعض ممن يمتلكون القدرات الفكرية والمالية المناسبة إلى افتتاح محال تجارية صغيرة أو ما يعرف بالدكاكين. لعلّ أقدمها دكان إبراهيم فرح والد كل من عبود ونجيب فرح اللذين استمرا بعد والدهما، ودكان جرجس فارس، الذي ظل يعرف بهذا الاسم إلى الماضي القريب.
بعد تلك الدكاكين القديمة أُنشئت أخرى منها دكان أمين سابا ودكان خليل سابا ودكان عبود ديب، ودكان سليم وسالم بردقان.
وتلاها فيما بعد دكان يوسف نادر، وخليل نادر، ونقولا عبدالله متري الذي خصص جناحاً من دكانه لبيع الكتب المدرسية، وكان مع والده عبدالله جرجس متري لحامين، إذ كانا يعلقان الذبائح مرة في الأسبوع، كما امتهن هذه المهنة إبراهيم رشيد نقولا لمدة من الزمن. أما عبدالله جرجس متري فقد كان بالإضافة إلى ما تقدم «كندرجي» ويقتني «كَلَبَة» من أجل قلع الأضراس.
والتجارة كما هو معروف تقوم على التداول والتبادل، وتخلق علاقات اجتماعية جديدة وانفتاحاً أوسع وأشمل، ولم تلبث أن شهدت تل عباس إنشاء أول محطة للمحروقات (سالم بردقان)، وأول فرن للخبز (فرن نجيب فرح) في الخمسينيات من القرن العشرين. وقد أنشأ هذه الأخير دكاناً في محطة القطارات في الزمن ذاته.
وكان التبضع يتم في مدينة طرابلس التي كان يقصدها أصحاب الدكاكين مستعملين الحمير والبغال والطنابر، وهي كناية عن عربات تجرها البغال وكانت وسائل النقل هذه تستعمل أيضاً لنقل الغلال والبضائع إلى المدينة. وفي خمسينيات القرن العشرين بدأت الشاحنات تحلّ محل تلك الوسائل خصوصاً بعد أن أصبح لتل عباس طريق يصلها بالجوار وبمدينة طرابلس التي استمرت مركز الاستقطاب الرئيسي حتى اندلاع أحداث سنة 1975 التي دفعت المناطق إلى النمو على حسابها لكثرة ما جرى فيها من أحداث أمنية واضطرابات اجتماعية وسياسية.