رواية (مسافر بلا حلم)؛ صعدا الدرج الحجري الدائري بصمتٍ إلى غرفتهما. أمسك نك يدها لكنها ظلت تتقدمه بخطوةٍ أو اثنتين. شعرت أن لمسة يده منحتها ارتياحاً كبيراً، وهي تحتاج إلى الراحة في هذا الوقت. شعرت أيضاً أنها أقدمت على أفظع شيء في حياتها.
قراءة كتاب مسافر بلا حلم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
1- عنكبوت
قاومت أديل الدافع الذي حثّها على الهرب والصراخ. أغمضت عينيها وأخذت نفساً عميقاً، ثم أمرت يديها أن تتوقفا عن الارتجاف. حين أصبحت دقات قلبها أقل تسارعاً فتحت عينيها مجدداً.
لم يتغيّر شيء. ما زال العنكبوت ذو الأرجل الثماني والجسم البدين الأشعر يعيش في حوض استحمامها. تراجعت أديل إلى الخلف قليلاً من دون أن تشيح بنظرها عن الأرجل الطويلة الهزيلة، مترقبة أي ارتعاش يشير إلى إقدام هذا المخلوق على حركة مفاجئة. حين حجبت حافة الحوض رؤيتها للدخيل أخذت تتحسّس الرف فوق المغسلة بارتباك، فتطاير معجون الأسنان والفرشاة فيما انتزعت كوب الزجاج الذي يحتويهما. جُلّ ما تريده في هذه اللحظة شيئاً مسطحاً وغير ليّن. جالت نظراتها حول غرفة الحمّام بسرعة من دون أن تقع على شيء محدّد. أجبرت نفسها على النظر مجدداً ببطء أكبر هذه المرة.
رأت المجلة التي قرأتها في المرة الأخيرة مستقرّة باتزان على سلة الغسيل. هذا ما كان ينبغي أن تفعله لولا هذا الدخيل. اهتاج في صدرها غضب حانق ومبرّر، كيف يجرؤ ذلك المحتلّ الصغير القذر على إفشال خططها؟
أمسكت أديل المجلة وسارت نحو حوض الاستحمام، محاولة ألا تسمح لخطاها بالتداعي مع اقترابها. بدا الأمر أسهل بكثير حين كان هناك من يقضي على العناكب سواها، لكن تلك الأيام لن تعود. ها هي الآن وحدها بمواجهة العنكبوت ذي الأرجل الثماني.
رفعت كوب الزجاج المقلوب في يدها آملة ألاّ يتزحلق. بدت أطراف أصابعها مبلّلة بالعرق، وأخذت أنفاسها تصدر في لهثات قاطعتها وقفات طويلة حيث بقي الهواء محبوساً داخل صدرها. خطوتان بعد وتصبح قريبة بما يكفي لالتقاطه!
أصبح الكوب على بعد بضع إنشات فقط من المخلوق. بدا كل شيء ساكناً حتى العنكبوت نفسه، وكأنه أحسّ بها تقترب. ثم تحرك فجأة وصعد باتجاهها على حافة الحوض.
لم تكفّ أديل عن التفكير، لكنها رمت الكوب والمجلة باتجاه مهاجمها وسارعت بالهرب إلى خارج الحمّام، فيما ملأ صوت الزجاج المحطّم أذنيها، أقفلت الباب بقوة واستندت إليه، فلربّما جرّب العنكبوت فتح الباب.
يجب ألا تفعل هذا! الخوف الذي ينتابها غير عقلاني. أرادت أديل أن تبتعد عن الباب في ذلك الوقت، لكن صوتاً من داخل الحمّام جعلها تمسك مقبض الباب بقوة أكبر.
لو أنّ... لا، لن تفعل هذا . . . لن تتمنّى وجوده. إنها ليست بحاجة إلى رجلٍِِ لتمسك بعنكبوت، لاسيما ذلك الرجل بالذات. أفلتت مقبض الباب ومررت أصابعها على شعرها الأسود الطويل، فيما صدرت عنها تنهيدة طويلة. أستطيع أن أفعل هذا! فكرت أديل بذلك وهي واقفة هناك وسط السكون. يجب أن أفعل هذا، فلن يقوم بالأمر أحد آخر من أجلي!
ارتجفت يداها وهي تملّس ثنيات ثوب استحمامها الأبيض المصنوع من قماش المناشف وتشدّ رباطه. بدت تلك حركة غير هادفة، فصديقها المكسو بالوبر في الداخل لا يأبه لشكلها، لكن أديل تحتاج إلى أن تظهر بشكل لائق وهادئ. تحتاج لأن تكون أديل التي لا تخاف من أي شيء.
استدارت لتواجه باب الحمّام. تخيلت نفسها في إحدى بذلاتها التي ترتديها إلى العمل، وشعرها مصفّف في لفّته الاعتيادية وهو ينساب على مؤخرة عنقها، إلاّ أنه ليس منتشراً على كتفيها في شتى الاتجاهات حتى يغطي وجهها. الأمر برمته متعلّق بالموقف العقلاني. أليس كذلك؟ تستطيع فعل أي شيء إذا عقدت العزم على فعله.
حضرت أديل بعض حلقات دراسية تدريبية سخيفة حين عملت في فينتون وباريت. كانت تتظاهر بالاصغاء، بينما هي في الحقيقة تفكر في كيفية إنشاء شركة خاصة بها مؤلفة من مستشارين إداريين. جعلت أحلامها تتحقق منذ ذلك الوقت، وهي تستطيع بالتأكيد أن تقوم بالخدعة ذاتها الآن.
مالذي تفوّه به هؤلاء الناس؟ آه، نعم. التخيّل! ركّزت أديل على المخلوق في حوض الاستحمام، وتحوّل في ذهنها إلى صورة فراشة ضعيفة مشعّة بالالوان. بإمكان أي كان أن يلتقط فراشة. أليس كذلك؟
جذبت أديل الباب ففتحته ثم سارت نحو الحوض. كان الزجاج المكسور يغطي الأرض، لكنّ المخلوق الذي تسعى إلى التقاطه قطع نصف الطريق صعوداً نحو الحنفيتين. لو لم تكن ذكية وخبيرة، لاعتقدت أن العنكبوت يرمقها بنظرة غرور. همهمت في سرها فيما مدّت يدها إلى الأمام وضمّت أصابعها عليه: "فراشة!"
اتسعت المسافة فجأة من حافة الحوض إلى النافذة لتصل إلى مساحة ملعب كرة قدم. حاولت أديل أن تمشي ببطء، لكن بعد خطوة ونصف، أخذت تركض. صرخت فيما بدأت أرجل العنكبوت ترتعش في يدها وهي تحاول جاهدة ألا تتقيّأ: "فراشة!"
صاحت أديل فيما فتحت النافذة بيدها الطليقة، ورمت ذلك المخلوق الفظيع منها: "يا للقرف! عنكبوت، عنكبوت، عنكبوت!" .