كتاب "الثورة الفرنسية وروح الثورات"، يقول المؤلف في مقدمة كتابه: لم أضع هذا الكتاب لأمدح الثورة الفرنسية أو لأذمَّها، بل لأفسرها بما ذكرته من السنن النفسية في كتاب «الآراء والمعتقدات».
أنت هنا
قراءة كتاب الثورة الفرنسية وروح الثورات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدمة المؤلف (2) إعادة النظر في التاريخ
ليس الدور الحاضر دور اكتشاف فقط، بل يُبْحَثُ فيه ثانية عن مختلف المعارف، فبعد أن قال العلم بعدم وجود حادث يسهل الاطلاع على علته الأولى أخذ يفحص قواعده حديثًا فبدت له مختلة، وهو يشاهد الآن دخول مبادئه القديمة، واحدًا بعد الآخر، في خبر كان، فعلمُ الآلات يخسر قواعده، وصار الناس يرون أن المادة، التي كانت معدودة في الماضي جوهر الكائنات الأزلي، قوًى فانية تكاثفت لأجل قصير.
ولم يشذ التاريخ عن ذلك على رغم ما فيه من الحَدْس الذي ينقذه من النقد الشديد، فلا يستطيع أحدٌ أن يقول الآن إنه يعرف صفحة منه معرفة تامة، وما كان يلوح أنه عُلم يقينًا من الوقائع أعُيد البحث فيه مرة ثانية.
والثورة الفرنسية من الوقائع التي كان يظهر أن درسها تمَّ، فهي بعد أن بحث فيها كثير من المؤلفين، وعمَّ القول بأنها أوضحت إيضاحًا كاملًا، وأنه لم يبقَ سوى تعديل بعض تفاصيلها، أخذ يتردد أشد المدافعين عنها في أحكامهم فيها، وهكذا أصبح كثير من الحقائق القديمة موضعًا للأخذ والرد، وصار الإيمان بعدد كبير من المذاهب المقدسة مزعزعًا، وما كُتب أخيرًا عن الثورة الفرنسية قد كشف القناع عن تلك الشكوك، والرِّيَب.
ولم يكتفِ العلماء بالمماراة في قيمة أبطال تلك الفاجعة العظمى، بل أخذوا يسألون هل كانت دعائم النظام الحديث، الذي حل محل النظام القديم، تتوطد من غير عنف بتأثير مبتكرات الحضارة بعد أن رأوا أن عواقب تلك الثورة لا تساوي أعباءَها.
هنالك أسباب كثيرة أوجبت إعادة النظر في ذلك التاريخ المحزن، ومنها أن الزمان سكَّن ثوران النفوس، وأن كثيرًا من الوثائق أخذ يخرج من الخزائن، وأن الناس صاروا يعلمون كيف يشرحونها بحرية تامة.
ولعلَّ علم النفس الحديث هو الذي سيؤثر أكثر من كل شيء في أفكارنا، معينًا إيانا على العلم بروح الرجال وعوامل سيرهم، ونخص بالذكر من اكتشافاته، التي يمكن أن يستعين بها التاريخ، المؤثرات الإرثية، والسُّنن المسيرة للجماعات، والعدوَى النفسية، وكيفية نشوء المعتقدات نشوءًا غير شعوري وتمييز أنواع المنطق المختلفة. والحقُّ أن هذه التطبيقات العلمية التي اتخذناها في هذا المؤلَّف لم يُنتفع بها حتى الآن، فلا يزال المؤرخون مكتفين بدرس الوثائق، على أن ما ذكرناه يكفي لإلقاء ما أشرتُ إليه من الشكوك والشُّبُهات في نفوسهم.
قد يكون تفسير الحوادث العظيمة التي تحوِّل مصير الأمم من الصعوبة بحيث يُضطر الإنسان إلى الاقتصار على ملاحظة هذه الحوادث.
وقد أثر في نفسي، منذ مباحثي التاريخية الأولى، تعذرُ اكتناه بعض الحوادث الجوهرية، ولا سيما نشوءُ المعتقدات، فشعرت بأن أمورًا أساسية ضرورية لإيضاحها تفوتُنا، وبأنه لا يجوز أن ننتظر شيئًا من العقل الذي قال ما أمكنه، ويتحتم علينا أن نبحث عن وسائل أخرى للوقوف على ما عجز العقل عن تفسيره.
بقِي أمر هذه المسائل الكبيرة غامضًا في نظري، وما أتيت به من السياحات للبحث عن أنقاض المدنيات المنقرضة لم يقلل من هذا الغموض شيئًا يذكر.
إلا أن كثرة التأمل والتفكير ساقتني إلى الإقرار بأن هذه المعضلة مركبة من معضِلات أخرى يجب البحث عن كل واحدة منها على حدة، وهذا ما فعلته في عشرين سنة، فأوردت نتائج مباحثي في سلسلة من المؤلفات.
بحثت في أحد مؤلفاتي الأولى عن السنن النفسية لتطور الأمم، فبعد أن بينت فيه أن الأمم التاريخية، أي الأمم التي نشأت على حسب مصادفات التاريخ، نالت في آخر الأمر صفات نفسية ثابتة ثبات أوصافها التشريحية أوضحت الكيفية التي تحوِّل بها هذه الأمم نظمها ولغاتها وفنونها، ثم شرحتُ فيه لماذا يحتمل أن تنفك عرى النفس عند تبدل البيئة فجأةً.
ولكن يوجد، عدا هذه المجتمعات البشرية المؤلفة من الأمم، مجتمعات بشرية متقلبة تسمى الجماعات، ولهذه الجماعات التي تمت على يدها أكبر الفتن التاريخية صفات تختلف عن صفات الأفراد الذين تتألف منهم اختلافًا تامًا، وقد بحثت عن هذه الصفات وعن كيفية نشوئها في كتاب سميته «روح الجماعات».
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أبصرت بين عوامل التاريخ المهمة عاملًا قويٍّا، أي المعتقدات، وقد بحثت عن هذه المسألة الصعبة في كتابي الأخير الذي سميته «الآراء والمعتقدات» فبينت فيه كيف تنشأ المعتقدات وهل تكون عقلية إرادية، كما عُرفت، أو تكون غير شعورية مستقلة عن كل عقل.
يبقى إيضاح المعتقدات أمرًا متعذرًا إن عُدَّت إرادية عقلية، وقد تمكنت، بعد أن أثبتُّ أنها غير عقلية في الغالب وغير إرادية على الدوام، من حل المعضلة العظيمة الآتية وهي: كيف يستصوب أرباب العقول النيرة في كل جيل معتقدات لا يسوِّغها العقل؟
سيظهر حل المعضلات التاريخية التي بحثت فيها منذ سنين كثيرة ظهورًا واضحًا بعد الآن، فقد توصلت إلى نتيجة دالة على أنه يوجد بجانب المنطق العقلي الذي يربط الأفكار بعضها ببعض منطق الجماعات والمنطق الديني اللذان يستحوذان في الغالب على عقولنا ويسيرانِنا.