كتاب "الثورة الفرنسية وروح الثورات"، يقول المؤلف في مقدمة كتابه: لم أضع هذا الكتاب لأمدح الثورة الفرنسية أو لأذمَّها، بل لأفسرها بما ذكرته من السنن النفسية في كتاب «الآراء والمعتقدات».
أنت هنا
قراءة كتاب الثورة الفرنسية وروح الثورات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وبعد أن حققت ذلك علمت أن إدراك كثير من الحوادث التاريخية يظل ممتنعًا عن إيضاح هذه الحوادث بنور المنطق العقلي القليل التأثير في تكوينها.
وقد اقتضى الوصول إلى القواعد التي لخصناها هنا في بضع صفحات سعيَ سنين كثيرة، وذلك بعد أن يئست من إتمامها ورجعت غير مرة إلى الجِد في المختبرات التي يثق الإنسان بأنه يقرب فيها من الحقيقة وينال شيئًا من العلم اليقين.
إن سبر غور الرجال مفيد كالتنقيب في الحوادث المادية، وهذا يجعلني أرجع إلى علم النفس على الدوام.
ولما ظهر لي أن بعض النتائج التي استنبطتها من مباحثي واسعة المدى نويت أن أعرضها على بعض الحوادث، وهكذا تناولت درس روح الثورات، ولا سيما الثورة الفرنسية.
وكلما كنت أتوغل في تحليل هذه الثورة الكبرى كانت أكثر الآراء التي اقتبستها من الكتب، وكنت أظنها متينة، تنهار انهيارًا متتابعًا.
يجب، لإيضاح هذا الدور، ألَّا يعد حادثًا واحدًا كما فعل كثير من المؤرخين، فهو مؤلف من حوادث مستقلة وقعت في آن واحد، وقد نشأ عن كل واحدة منها أمور وقعت حسبما تقتضيه سنن النفس، ويظهر أن ممثلي تلك الفاجعة الكبرى ساروا كممثلي الروايات التي وضعت سابقًا، فقال كل واحد منهم ما يجب أن يقول، وعمل ما يجب أن يعمل.
لا شك في اختلاف أولئك الممثلين الثوريين عن ممثلي الرواية المكتوبة لكونهم لم يدرسوا أدوارهم، ولكن قوًى خفية كانت تمليها عليهم، فكانوا يقومون بها كأنهم من الحافظين لها، وقد أوجب اتِّباعهم منطقًا لم يدركوا من أمره شيئًا اتباعًا مقدرًا، تعجُّبَهم مثلنا من الحوادث التي كانوا أبطالها، فالقوى الخفية التي كانت تسيرهم لم تخطر ببالهم قط، ولم يكن أمر شدتهم وضعفهم في يدهم، فهم، وإن كانوا يتكلمون باسم العقل ويدَّعون أنهم مسيرون به، لم يكن العقل رائدهم بالحقيقة، قال بيوفارين:
كنا لا نريد أن نأتي ما نلام عليه من الأفعال، ولكن الأزمة كان تدفعنا إليه.
ولا يستدلنَّ القارئ بهذا الكلام على أن الحوادث الثورية خاضعة لمقادير مهيمنة مطلقة، فالمطلع على ما وضعناه من الكتب يعلم أننا نعترف بما لأرباب التأثير والنفوذ من القدرة على إبطال عمل المقادير، غير أنهم لا يقدرون إلا على إبطال شيء قليل منها، وكثيرًا ما يعجزون عن وقف الحوادث التي لم يتسلطوا على سيرها منذ البُداءة، فالعالِم الذي يقدر على استئصال المكروبات قبل فعلها يعترف بعجزه عن ذلك عند استفحال المرض.
افترق المعتقدون الذين أتوا أحكامًا في الثورة الفرنسية، التي هي من عمل المعتقدين أيضًا، إلى فرقتين: إحداهما تلعن هذه الثورة والأخرى تُعجب بها، ولذلك ظلت هذه الثورة من جنس المعتقدات التي تُقْبل أو تُرْفض جملة من غير أن يتدخل منطق عقلي في هذا الاختيار، فالثورة الدينية أو السياسية، وإن جاز أن تستند إلى العقل في بُداءتها، لا تنتشر إلا معتمدةً على عوامل الدين والعاطفة التي لا صلة بينها وبين العقل مطلقًا.
لم يستطع المؤرخون الذين بحثوا في حوادث الثورة الفرنسية على نور المنطق العقلي أن يدركوا سرَّها، فبما أن هذا المنطق لم يكن محدثًا لها، وبما أن القائمين بها أنفسهم كانوا غير مطلعين على كنهها، لا نخطئ إذا قلنا إن تلك الثورة أمر لم يفقهه من أتاه ومن قصَّه، ولم يكن في أدوار التاريخ دور أُدرِكَ فيه الحال إدراكًا قليلًا وجُهل فيه الماضي جهلًا تامًّا وكُشف فيه المستقبل كشفًا ناقصًا كذلك الدور.
لم يقم سلطان الثورة الفرنسية على ما كانت تنشره من المبادئ، ولا على ما كانت تضعه من الأنظمة؛ إذ الأمم لا تبالي بالمبادئ والأنظمة إلا قليلًا، وإنما السبب في قوة هذه الثورة وفي رضى فرنسة بما أتته من المذابح والهدم والهول وسائر المظالم وفي مدافعتها ظافرة حيال أوربة المدججة بالسلاح هو إقامتها ديانة جديدة، لا نظامًا جديدًا، ولقد أثبت التاريخ ما للمعتقد القويِّ من القوة التي لا تقاوم، فقد خضعت قوة الرومان المنيعة الجانب لجيوش من رعاة البدو الذين أضاء قلوبهم ما جاء به محمد من الإيمان، ولمثل هذه العلة لم يقدر ملوك أوربة على مقاومةُ جنود العهد الرَّثة الثياب، فكان هؤلاء الجنود مستعدين، كجميع الدعاة، للتضحية بأنفسهم في سبيل نشر عقائدهم التي كانوا يظنون أنها ستجدد العالم.
لا نعُدُّ الثورة الفرنسية ـ خلافًا لما ظن دعاتها ـ قد قطعت كل علاقة بالتاريخ، وإن أحدث هؤلاء لإظهار مقصدهم تقويمًا جديدًا وزعموا أنهم قضوا على الروابط التي تربطهم بالماضي الذي لن يموت والذي هو متأصل في النفوس أكثر من كل شيء، فقد كان المصلحون أيام الثورة الفرنسية مشبعين بالماضي من غير أن يشعروا، وهم لم يفعلوا سوى مواصلة التقاليد الملكية مسماةً بأسماء أخرى، والسير على نحو مركزية العهد السابق مع الإفراط في الاستبداد.
والثورة الفرنسية ـ وإن لم تنقض الحقيقة سوى شيء يسير من مقومات الماضي ـ أعانت على انكشاف بعض المبادئ التي استمرت على النمو، ومن هذه المبادئ: مبدأ المساواة الذي أصبح إنجيل الأمم، أي صار قطب الاشتراكية والديموقراطية في الوقت الحاضر، وبهذا نقصد أن نقول إن تلك الثورة، التي لم تنته بظهور الإمبراطورية ولا بالأنظمة التي ظهرت بعد الإمبراطورية، انتشرت بالتدريج مع الزمن، ولا تزال ذات سلطان على النفوس.
ربما ينزع بحثنا في الثورة الفرنسية كثيرًا من أوهام القارئ، فسيرى القارئ أن الكتب التي بحثت فيها تحتوي كثيرًا من الأقاصيص البعيدة من الحقيقة، وستبقى هذه الأقاصيص مسطورة في كتب التاريخ من غير أن نأسف على ذلك، فمع أن الاطلاع على الحقيقة يفيد بعض الفلاسفة نرى أن تغلب الأوهام على الشعوب أنفع، فمن مجموع تلك الأوهام تنشأ مُثُل الشعوب العليا المسيرة لها، قال فونتنيل: «لولا الأفكار الباطلة لضاعت الشجاعة».
حقًّا إن قصص جان دارك وغيلان العهد والإمبراطورية تورث النفوس آمالًا بعد الهزيمة، وأن لهذا التراث الوهميِّ الذي ورثناه من الآباء سلطانًا أشدَّ من سلطان الحقائق في بعض الأحيان، فالأوهام والخيالاتُ والأساطير هي التي تقود التاريخ.


