أنت هنا

قراءة كتاب الثورة الفرنسية وروح الثورات

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الثورة الفرنسية وروح الثورات

الثورة الفرنسية وروح الثورات

كتاب "الثورة الفرنسية وروح الثورات"، يقول المؤلف في مقدمة كتابه: لم أضع هذا الكتاب لأمدح الثورة الفرنسية أو لأذمَّها، بل لأفسرها بما ذكرته من السنن النفسية في كتاب «الآراء والمعتقدات».

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 6

(2) الثورات العلمية

الثورات العلمية من أكبر الثورات أهمية، ومع أنها لا تستوقف النظر كثيرًا، هي في الغالب، ذات نتائج بعيدة لا تأتي بمثلها الثورات السياسية.
فَسِرُّ تحوُّل الصورة التي ننظر بها إلى الكون منذ عصر النهضة هو أن الاكتشافات الفلكية والطرق القائمة على التجربة والاختبار أورثت نفوسنا ثورة بإثباتها أن الحوادث تصدر عن سنن ثابتة لا تتبدل، لا عن أهواء الآلهة.
والأجدر أن تدعى هذه الثورات بالتطور لبطء وقوعها، بيد أنه يوجد من نوعها ثورات أخرى تقع بسرعة وتستحقُّ أن تدعى بالثورات، مثال ذلك آراءُ داروين التي قلبت علم الحياة في بضع سنين رأسًا على عقب، واكتشافات پاستور التي حولت علم الطب في أيام صاحبها، والرأي في انحلال المادة الذي أثبت أن الذرة لا تشذ عن السنن القاضية على جميع عناصر الكون بالزوال والفناء خلافًا لما كان يُظنُّ.
وبما أن مجال هذه الثورات هو عالَم الأفكار فإنه ليس للمشاعر والمعتقدات سلطانٌ عليها، وعلى المرء أن يعانيها من غير أن يجادل فيها.

(3) الثورات السياسية

نذكر ـ بعد الثورات العلمية التي هي سرُّ تقدم الحضارة ـ الثورات الدينية والثورات السياسية وإن كانت بعيدة منها ولا تربطها بها رابطة، فالثورة العلمية لا تشتق إلا من العقل مع أن المشاعر والعواطف هي دعائم المعتقدات السياسية والدينية، ولا يكون للعقل سوى شأن ضئيل في تكوينها.
لقد أثبتُّ في كتاب «الآراء والمعتقدات» أن المعتقد السياسي والديني هو إيمان أينع في عالم اللاشعور من غير أن يكون للعقل سلطان عليه، وبيَّنت فيه أن المعتقد قد يكون أحيانًا من القوة بحيث لا يقوم في وجهه شيءٌ، وأن المرء الذي استحوذ عليه إيمانه يصبح رسولًا مستعدٍّا للتضحية بمنافعه وسعادته وحياته في سبيل نصره، وأنه لا أهمية لمخالفة هذا الإيمان للعقل والصواب بعد أن يكون حقيقة في نظر صاحبه، فالحق أن للعقائد الدينية قوة عجيبة في تغلبها على الأفكار، وفي أنها لا تتبدل إلا بتبدل الأزمان.
واعتبار المؤمنين المعتقد حقيقة مطلقة يجعلهم غير متسامحين بحكم الضرورة، وهذا يوضح لنا سرَّ قسوتهم وأحقادهم ومظالمهم أيام الثورات السياسية والدينية الكبيرة، ولا سيما أيام ثورة الإصلاح الديني والثورة الفرنسية.
وتظلُّ بعض أدوارنا التاريخية سرٍّا إن جهلنا منشأ المعتقدات العاطفي والديني وعدم تسامحها الضروري واستحالة التوفيق بينها، ثم ما تُنعِم به المعتقدات الدينية على المشاعر المسخَّرة لخدمتها من القوة.
وتلك المبادئ حديثة العهد بعيدة من تغيير عقلية المؤرخين الذين سوف يستمرون على اعتبار كثير من الحوادث صادرًا عن المنطق العقليِّ، فمع أن الإصلاح الديني الذي قلب فرنسة مدة خمسين سنة وما ماثله من الحوادث لم ينشأْ عن عوامل عقلية لا يزال أكثر المتأخرين من العلماء يعزون هذه الوقائع إلى العقل، مثال ذلك الإيضاح الذي أوضح به مسيو لاڤيس ومسيو رانبو ثورة الإصلاح الديني في كتابهما «التاريخ العام»، إذ قالا:
إن ثورة الإصلاح الديني حركة غريزية تولدت في نفوس القوم من مطالعة لإنجيل ومن تأملات فردية أورثها قلوب البسطاء عقل مِقدام.
فالحقيقة هي غير ما زعم هذان المؤرخان، فهذه الثورة لم تنشأ عن الغريزة ولم يكن للعقل تأثير في نضجها، وإنما خرجت ـ كغيرها من المعتقدات السياسية والدينية التي قلبت العالم ـ من المشاعر وخلق التدين.
حقًّا إن مصدر المعتقدات ـ سياسية كانت أو دينية ـ لمشترك، وهي خاضعة لسنن واحدة، أي أنها لا تتكون بالعقل، وكثيرًا ما تتكون خلافًا لما يقتضيه العقل، فالبدهية (البوذية) والإسلام والإصلاح الديني واليعقوبية والاشتراكية، وإن لاحت على شكل فكريًّ ظاهر، هي بالحقيقة قائمة على عواطف وتدينات متماثلة، وتخضع لمنطق لا علاقة بينه وبين المنطق العقليِّ أبدًا.
تنشأ الثورات السياسية عن معتقدات تأصلت في النفوس، ولكنها قد تنشأ عن أسباب أخرى تجمعها كلمة الاستياء، فمتى عمَّ هذا الاستياء تألف حزب قادر على مكافحة الحكومة.
ويقتضي أن يتراكم الاستياء ليكون ذا نتائج، ولهذا لا تكون الثورة في الغالب حادثة لم تلبث أن تنتهي حتى تعقبها ثورة أخرى، بل هي حادثة مستمرة أسرعت في نشوئها قليلًا.
وعندنا أن الأمم الكثيرة المحافظة هي التي تأتي بأشدِّ الثورات خلافًا لما يظن بعض الناس؛ لأنها إذ كانت محافظة غير متحولة ببطء لتلائم تقلب البيئات تكره على ملاءمتها بغتة بالثورة حينما تصبح الشُّقَّةُ بين الطرفين عظيمةً جدًّا.
ولا مفرَّ للأمم التي تلائم تقلُّب البيئة بالتدريج من الوقوع في الثورات، فلم ينجح الإنكليز، سنة 1688، في ختم النزاع الذي استمر قرنًا بين العرش الذي كان يرغب أن يكون مطلقًا وبين الشعب الذي كان يسعى أن يكون محكومًا من نوابه إلا بالثورة، وخاصة الأمة، لا عامَّتها، هم الذين يبدأون بالثورات في الغالب، ولكن الثورات تستمد قوتها من الشعب عندما يهيج، وقد لا تتم الثورات إلا إذا دعمها فريق كبير من الجيش، فلم تأفُل الملكية في فرنسة يوم قطع رأس لويس السادس عشر، بل يوم امتنع جندُه عن الدفاع عنه.
وقد تزول المحبة بالعدوى النفسية من الجيوش التي لا تكترث لسير الأمور إلا قليلًا، فعندما استطاع بضعة ضباط أن يقلبوا الحكومة التركية فكَّر ضباط اليونان في تقليدهم بتغيير الحكومة، مع أنه لم يكن شَبَهٌ بين النظامين.
وقد يمكن تغيير الحكومة بحركة عسكرية، وذلك كما يقع في الجُمهوريات الإسبانية، ولكن مثل هذه الثورات لا تكون ذات نتائج مهمة إلا إذا صدرت عن استياء عام وآمال كبيرة، والاستياءُ، إذا لم يكن عامًّا شديدًا، لم يكفِ لإحداث الثورات المجدية، فمن الأمور السهلة أن تحرَّض شرذمة من الناس على النهب والهدم والقتل، ولكنه يجب لتحريك الأمة كلِّها أو معظمها أن يبالغ الزعماء في تجسيم الاستياء وأن يَحْمِلوا الساخطين على اتهام الحكومة بأنها سبب الحوادث السيئة، ولا سيما الفاقة والغلاء، وأن يجعلوا الجمهور يعتقد أن عصر السعادة سينبثق على الناس من النظام الجديد الذي يقترحونه، فمتى تأصلت هذه الأمور في النفوس وانتشرت بالتلقين والعدوى قرُب الوقت الذي تنضج فيه الثورة.
فعلى هذا الوجه نشأت الثورة المسيحية والثورة الفرنسية، وإذا كانت الأخيرة قد وقعت في سنين قليلة، وتطلَّب وقوع الأولى كثيرًا من السنين، فلأن الثورة الفرنسية لم تلبث أن دعمها الجيش مع أن الثورة المسيحية لم تنل قوة مادية إلا بعد انقضاء زمن طويل، فالأصاغر والسِّفْلةُ والعُبْدان هم الذين كانوا أنصار المسيحية في البُداءة، ومنهم سرت عدواها إلى الخاصة، ولما كمل انتشارها بين هؤلاء أيضًا رأى أحد الأباطرة اتخاذها دينًا رسميٍّا للدولة، وهذا كله لم يتم إلا في وقت طويل.

الصفحات