كتاب " إضاءات نيتشوية - الجزء الأول " ، تأليف د. نديم نجدي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب إضاءات نيتشوية - الجزء الأول
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إضاءات نيتشوية - الجزء الأول
المقدمة
ما قبل الكلام... ثمة إنسان نقي ـ خالٍ وصافٍ من أدران التدجينات المُضافة على ما زوده به الورثة وأضافه على إضافاته المتتالية ورثة الورثة من قيم أخلاقية وتقاليد اجتماعية رامت بأقاويلها إلى تهذيبه من براءة أصله لكي ينساق بأعمول فصلهم فيغدو المرء بمؤدى هذه العملية محتجبا خلف مكدسات نهينا عن...، وحثنا على....
فمن دون الدخول في الأسباب والمسببات التي حدت بالبشر إلى بناء أيقوناتهم الدينية والدنيوية ومن دون التبرير المنطقي لما لا منطق لنتائجه تلك التي آلت إلى تشريع معياري لما يجوز... وما لا يجوز فعله في خضم حياتنا التي نعيشها تكتلات غمرتنا بدفء التآلف والتآزر فطمست معها هوية كل فرد يتوق إلى التحرر لكي يكون هو «هو»... بين الـ «هم»... نجد ان حكاية صيرورة الإنسان محملة بعلائق تاريخية أضاع فيها نفسه المتأرجحة بين مفارقات الفبركة الاجتماعية لما يجب أن تكون عليه حال الفرد بين الجماعة من جهة واشتياقات الأفراد لاختراق حجاب الحاجز الاجتماعي بغية الاتساق مع ذواتهم المقعرة من جهة ثانية.
ولأن مشاركة الفرد أفراح الجماعة وأتراحها بمثابة تسوية «لاواعية» لما قد يؤول إليه أمر موافقته على ما لا يتفق معه فيما لو كان بحل من الاعتبارات التربوية لأنسنته سيبقى الصراع بين رغبته ورغبتهم صراعا بين متوجبات إرضاء كيانه الاجتماعي (العام) من ناحية ومستلزمات مصالحة كيانه الفردي (الخاص) من ناحية ثانية.
ذلك أن بين الـ «هو»... والـ «هم» مساحة مليئة بشياطين المفارقات بين ما يستأنس به الفرد وما تبغضه الجماعة...، فبين ما يتوق إليه عرينا الحيواني وما هو عليه زينا الإنساني ثمة ما يؤكد صيرورة خلقنا وخُلقنا إلى ما لا يتثبته أقنوم رباني ولا قانون إنساني فقيم العصور المنصرمة ليست هي نفسها قيما لعصرنا الحالي ولا أخلاق هذا القوم كأخلاق ذاك مثلما قد تجد خير أمة من شر تلك كما أن قبح ما تراه لا يقاس إلا على جمال ما قد رأيته.
السؤال: أما من حيِّز مشترك بين المختلفين بأخلاقهم والمتبدلين بأشواقهم؟
وهنا لا نجزم قطعا بالأشياء المخلوقة فينا وبذاتنا على أنها ثابتة رغم أنف التحولات الظرفية التي نستدل منها وبتمظهراتها على ما تخفيه اللطافة المعلنة من خبث مُضمر...، على ما يخبئه فعل الخير من نوايا ليست خيِّرة لذا فالاستدلال على هذا... من ذاك...ليس تعقبياً، ولا هو بسهولة ربط العلة بالمعلول لأن بين «البينيات» مسافة مليئة بتعقيدات وتشابكات مُلتبسة تُصعِّب علينا أمر تفكيك المعلن عن المُبيت...، صدق ما نقوم به عن كذب ما نعلن عنه...، فالمسألة هذه أدق من أن تختزل في معادلة حسابية لارتباطها بحيثيات لا تُعدَّ ولا تُحصى وذلك لتعدد ومغايرة العوامل التي حدت بكلٍّ منا لأن يكون «هو» غير «الآخر».
ومع ذلك يبقى في أصل النوع الإنساني ثمة ما يروم إلى الظهور بأقنعة تبدو فيها الشفقة ـ العدوانية ــ الأنانية وما إلى هنالك من صفات نكرة في قاموس النعوت الحسنة عند الإنسان السوي كامنة في قاع حضوره الاجتماعي المُريب حيال الآخرين هؤلاء الذين أُقحموا جيلا بعد جيل في لعبة إخفاء ما لا يجب إعلانه عبر إشهار مستلزمات استقامتهم احتراما لمن لا يحترمونه أو حرصا وعطفا على من يستجدون ملكيته.
ولأن كلا منا هو من الآخرين وإزائهم موجود تتداخل النوايا وتتشابك على نحو يغدو فيه التواطؤ لتمرير ما لا يؤمن به أفراد الجماعة عرفا أو تقليداً، قيمته من قيمة تسليم البشر بقدر انسياقهم بمشيئة قوة خفية خلقوها بأنفسهم... لأنفسهم...
لهذاخرج نيتشه بصحبة مصباح عقله النافذ ليضيء عتمة جهل القطعان البشرية السائرة بهدى إيمانها بحقائق ليست حقيقية إذا ما كُشف النقاب عما يخفيه كل منا من شك بغيض وريبة مشؤومة حيال ما نؤمن به ونسير عليه.
وفي هذا السياق توغل نيتشه في نطاق المحرمات ليعري قيمنا من هالة أوهامنا المحروسة بعقول البسطاء أو الضعفاء لا الأقوياء المستأنسين بواقع حال إيمان العامة بدونيتهم التي من شأنها حماية مصلحة السادة كمتفوقين في علمهم على ما لا يعلمه الجهال بأمر مُدعي المعارف العظيمة.
لذا صب نيتشه جام نقده نقضا للمعتقدات الأيديولوجية هذه التي احتمت بفيء ظلها القطعان البشرية الضالة عن أصلها ليعيد الأمور إلى براءة الصيرورة في أسس كل الحكايات الأخلاقية تلك التي أخرجت الإنسان عن طور بساطته وأدخلته في تعقيدات فهمه لما يجب أن يكون عليه اجتماعه مع أبناء جنسه.
وبذلك أضاءت لنا فلسفة نيتشه زوايا كان قد تعشش فيها تاريخ من منسيات «السهل الممتنع» العصي على من حبسوا أنفسهم خلف قضبان المسموحات والممنوعات الدينية والدنيوية مدة كافية لكي يتم تدجين فراستهم وتشذيبها من كل العلائق التي تتعارض مع صورة رسمهم لما يجب أن تكون عليه صفات الإنسان السوي.
من هنا صارت الفلسفة ما بعد افتضاحات نيتشه وهدمه كلاما كبيرا استنتجه هو من صغائر أمورنا الواضحة وضوح جهلنا بكبائرها أو قل عدم درايتنا بخباياها المغطاة بقشور عدم فهمنا لجوهر المسألة الأخلاقية المصنوعة من حيثيات استدل منها عما تأدى عنها من تصنيف الخير عن الشرّ، والنافع عن الضار الخ...
وبهذا طرق نيتشه الفيلسوف باب نيتشه الإنسان ليستخلص بنفسه ـ من نفسه علة التفلسف الميتافيزيقي عند فلاسفة شيدوا صرح فلسفتهم على ما كان قد بناه الأجداد في أرض مغايرة لما نقف عليه نحن المعاصرين بعد أن دشنت فتوحاتنا العلمية حقلا افتراضيا جديدا لفلسفة من نوع آخر.
وما محاولتي هذه لإضاءة ما فات نيتشه إضاءته أو قوله بفوات عصره المنقضي منذ زمن لايشبه زمننا سوى اجتهاد لا أزعم فيه ما لا أقدر على تحمله وما لا أستطيع استكماله في مشواره الفلسفي الغريب والمُدهش بتنوع وتلون موضوعاته الجديرة بحساسيته المفرطة حيال ما يستشعر به هو في الأشياء الراكدة داخل يم معتقداتنا الأيديولوجية.
كما لا أدعي فيما أقوله ارتقاء مكتوبي هذا إلى مستوى إبداع نيتشه لمكتوبه الذي ألهمني إلى استنباش «المطمور» من خلف «المقوول»، وحسبي أنني واحد ممن أجازت له فلسفة نيتشه الدخول إلى فضاءات رحبة لم يجرؤ أحد قبله على مخاطرة ريادتها بالحكمة إياها التي أدركت ما سيؤول إليه فعل تدشينها من استفزاز حث غيري قبلي على كتابة نفسه مكتوبا للآخرين.
من هنا لا أعتبر نفسي متطفلا ولا متطاولا على ما كان يتألم منه ـ به نيتشه حينما خط ألمه في فلسفة غاصت في دفائن نفسه لتنتشل ما هو ساكن في أعماق الغير.
ولأن لكلٍّ أساريره سمحت لنفسي «بالتفقه النيتشوي»، من نور فلسفة لا تعلمك مفاهيمها تمييز الخطأ من الصواب إنما تدخلك في مناخٍ تفوح منه رائحة عفن إيمانك بالذي أنت فيهأكان إيمانا بحقيقة ثابتة أم اعتقادا بصواب مطلق.
وقد تتعارض أو تتفق مع ما قاله نيتشه باعتباره رأيا خاصا لنفس قلقة من حساسية صدقها حيال ما قد تعتبره أنت تشاؤما مبالغا فيه؛ فهو لم يدع يوما بنهائية رأيه ولا بصوابية موقفه من حياتنا التي عكر صفوها فكدرها بمعول نقضه وتقويضه لحقائقنا من خلال افتضاحه وتعريته لهشاشة أفعالنا وأقوالنا التي فبركت ما لا أساس له في أصلنا كأن تعرف مثلا أن ما تغتبط به لا يبعث على الفرح وما تشاهده من الشيء ليس في الشيء نفسه...، وما تؤمن به أكذوبة خلقتها بنفسك لتريح نفسك من داء وجودك الناقص أبداً.