أنت هنا

قراءة كتاب دخان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دخان

دخان

كتاب " دخان " ،تأليف إيفان تورجنيف ترجمه إلى العربية شكري عياد ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 1

تقديم

حوالي منتصف القرن التاسع عشر كان يخيّم على الأفق الأوربي ظل كبير.. ظل الثورة الفرنسية ونابليون بونابرت، لقد عاد آل بوربون إلى فرنسا كما كانوا قبل الثورة. ومات نابليون، شبه مجنون، في جزيرة سانت هيلانة، ولكن كلمة الحرية ظلت تتردد في أرجاء أوربا فتتلقفها الملايين. وعلى الرغم من «الحلف المقدس» وهجمات الرجعية المستأسدة فقد استمرت الثورات، كما استمرت حركات المطالبة بالحكم النيابي، فتحررت إيطاليا، وتكررت الثورات الوطنية في المجر، وبولندا، وعادت الجمهورية في فرنسا، وفرض الأحرار الألمان حكومة ديمقراطية.

وفي هذا الجو كانت «روسيا المقدَّسة» وريثة الأمبراطورية البيزنطية، وحامية الدين المسيحي، هي المعقل الأول للرجعية. وكان دور القيصرية في مقاومة الحركات التحررية دورًا متعدد الأوجه. كانت تفرض على بولندا وسائر مستعمراتها في أوربا، وآسيا عبودية أبدية، وتخمد ثوراتها بعنف دموي. وكانت تضع جيوشها في خدمة الرجعية الأوربية المرتبكة، كما فعلت في ثورة المجر وكانت ـ في روسيا نفسها ـ تقمع بقسوة كل نزعة فكرية تشتم منها رائحة الحرية، وكل دعوة إصلاحية تحبذ ـ سرًا أو علانية- الحكومة الشعبية.

وفي حُمّى القمع والإرهاب لم تكن الرجعية تفرق بين الأفكار المعارضة لمصالحها حقيقة وبين الأفكار التي يمكنها أن تستغلها وتستخدمها. كان «السلافوفيل» في كثير من الأحيان يلقون من التنكيل مثلما يلقاه «الغربيون» مع أن السلافوفيل كانوا يقدِّمون للرجعية الروسية تكئة قوية لمقاومة الثورة، وأساسًا نظريًا للمحافظة على القديم، فقد كانوا يذهبون إلى أن الحضارة الأوربية قد دبَّ فيها الفساد، فلا ينبغي أن تستعير روسيا من الغرب، بل يجب عليها أن تحافظ على نظمها «السلافية» الأصيلة وكان خصومهم الغربيون ـ على العكس ـ يدعون إلى الاقتباس من الغرب والتلمذة له، ومعنى ذلك، في ذلك الوقت، اقتباس وسائل الإنتاج الحديث، ونظم الحكم الديمقراطي، وتراث العلم العالمي وأشكال الفن المتطور.

وكان تورجنيف من هذا الفريق الأخير. وقد ذهب إلى أوربا شابًا ليدرس الفلسفة في إحدى الجامعات الألمانية، وليتنفس بحرية في جو فكري بعيد عن إرهاب القيصرية، ولكنه لم يكن «هاربًا» ولم يكن متنكرًا لوطنه، بل لعله كان في فراره من بلاده، وطنيًا حاد الوطنية. وعاطفة تورجنيف نحو وطنه ـ وهي العاطفة التي تجلت في «دخان» وعبر عنها أصدق تعبير على لسان «بوتوجين» ـ تظهر في هذه الكلمات التي وصف بها حالته في صدر شبابه.

«إن الحركة التي كانت تدفع بأترابي من الشبان إلى البلاد الأجنبية كانت تعيد إلى الذاكرة صورة أولئك الصقالبة الأقدمين الذين ذهبوا يبحثون عن أمراء لهم بين «الفارج» وراء البحار(1). فكل منا كان يحس إحساسًا عميقًا أن «أرضه» (ولا أعني الوطن على التعميم بل تراث الآباء الخلقي والفكري) «أرض عظيمة غنية ولكنها خلو من النظام». وأستطيع أن أقول عن نفسي أنني شعرت شعورًا أليمًا بمساوئ هذا الانتزاع من منبتي الأصلي، وهذا القطع العنيف لكل صلة تربطني بالبيئة التي شببت فيها.. ولكني لم أكن أستطيع غير ذلك. فهذه الحياة، وهذا الوسط، وبخاصة هذه الدائرة التي كنت منتميًا إليها، دائرة ملاك الأراض وأصحاب العبيد، لم يكن فيها ما يدعوني إلى البقاء. بل على العكس، كان كل ما أراه حولي تقريبًا يبعث في نفسي شعور القلق والثورة، أو باختصار شعور الاشمئزاز. فلم أستطع التردد طويلا، إذ لم يكن بُدّ من إحدى اثنتين: إما أن أخضع وأسير بهدوء في الدرب المطروق، وإما أن أنتزع نفسي دفعة واحدة، وأتخلص من كل شيء وكل إنسان، وإن أدى ذلك إلى حرماني من أشياء كثيرة حبيبة إلى قلبي. وكان ذلك هو السبيل الذي اخترته. فألقيت بنفسي في «الخضمّ الألماني» ليطهّرني ويجدّد حياتي، حتى إذا خرجت من مياهه وجدت نفسي «غريبًا»، وكذلك بقيت. فلم أستطع أن أتنفس وأعيش وجهًا لوجه مع ما كنت أكره، ولعله كانت تعوزني السيطرة على النفس وقوة الشخصية اللازمتان لذلك. كان علي أن أبتعد عن عدوّي مهما يكن الثمن، كي أسدد إليه عن بُعْد ضربات أشد قوة. وقد كنت أرى لهذا العدو وجهًا واضح القسمات، وكان له عندي اسم معروف. كان عدوّي هو حق الاسترقاق. وتحت هذا الاسم جمعت كل ما كنت عازمًا على مصارعته إلى النهاية، كل ما أقسمت على محاربته بغير مهادنة. كان ذلك عندي هو قَسَم هانيبال. ولم أكن وحدي صاحب هذا القسم. وذهبت إلى الغرب كي أبرَّ بقَسَمي..».

حوالي سنة 1847 كان تورجنيف في روسيا. وبدأ ينشر صورًا من حياة الفلاحين كانت معولا من المعاول القوية التي وُجِّهت إلى نظام الرقيق. وكانت قوتها في واقعيتها الإنسانية التي أظهرت هؤلاء الفلاحين الأرقاء، لأول مرة في تاريخ الأدب الروسي، في مشاهد حياتهم العادية القاسية، وصوَّرت آمالهم وآلامهم، فكأنها نبهت إلى أنهم بشر كغيرهم من الناس، وقد جمع تورجنيف هذه الصور في كتابه «مشاهد من حياة صياد» (1852) وعوقب بالنفي إلى الريف. ولكن الرجيعة لم تستطع أن تمضي في استبدادها إلى النهاية. فإن الفلاحين أنفسهم بدأوا يثورون، وتكررت حوادث العصيان الجماعي حتى بلغ عددها في سنة 1848 وحدها أربعة وستين. وأدت سياسة القيصر نيكولاس الأول العدوانية إلى حرب القرم سنة 1854 ضد الدولة العثمانية، وحاربت إنجلترا وفرنسا في صف العثمانيين وهُزمت روسيا هزائم متلاحقة حتى اضطر القيصر ألكسندر الثاني الذي تولى العرش سنة 1855 إلى عقد الصلح بعد خسائر جسيمة لم تحصل البلاد من ورائها على أيّ فائدة. ثم بدأ سلسلة من الإصلاحات كان أولها وأهمها إلغاء الرق سنة 1861، وجاءت بعد ذلك قوانين التجنيد الإجباري، وفتح الجامعات أمام أبناء الشعب، وإدخال نظام المحلّفين في المحاكم الروسية، ولكن الرجعية كانت تنظر شزرًا إلى هذه الإصلاحات، وتحيطها بمختلف العراقيل ولم تلبث أن كشفت وجهها ثانية، ففي سنة 1865 رفض القيصر طلب النبلاء تأسيس مجلس نيابي، وتلا ذلك تعطيل الصحف الحرة، وإذاعة منشور رسمي يدعو الشعب إلى «مقاومة الأفكار الخبيثة التي تهدم الدين والنظام والملكية الخاصة». وبينما كانت الرجعية تشدد قبضتها بدأ الفكر الروسي يتحول من التحرر إلى الثورة. وكما هي العادة دائمًا في مثل هذا التحول امتلأت أجواء المثقفين بالبدع الفكرية والدعوات الكاذبة والمغامرات الصبيانية. وكان هذا هو الجو الذي كتب فيه تورجنيف «دخان» سنة 1868.

الصفحات