كتاب " جبل الزمرد " ، تأليف منصورة عز الدين ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب جبل الزمرد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
جبل الزمرد
لكن بينما أقود سيارتي وسط بساتين تكاد تبتلعني بداخلها، يجتاحني الإحساس بالضآلة، أراني جرمًا صغيرًا يصارع كي لا يلتهمه هذا الطوفان النباتي. لا وجود لأي صوت بشري. لا شيء سوى زقزقة عصافير بأصوات معدنية حادة، وطنين نحل يتسابق على امتصاص الرحيق من زهر برتقال يُعبِّق الجو بأريجه.
من بعيد بان البيت المشيد بالحجر القديم كقلعة مصغرة تدير ظهرها للزمن. اتسع الطريق حتى انتهى إلى مستطيل من الأرض الفضاء يتوسطه البيت بأسواره العالية. ركنتُ العربة ووقفتُ مترددة أمام البوابة الحديدية. قبل أن أضغط زرّ الجرس، فتح لي المضيف، فخمّنت وجود شاشة مراقبة تُظهِر له ما يجري خارج قلعته الحجرية.
قادني إلى الداخل عبر مجاز متعرج، أوصلنا إلى فناء كبير بمثابة حديقة داخلية تتوسط البيت وتتوزع حولها قاعاته الرئيسية على غرار البيوت العربية القديمة.
«خدي راحتك.. دقايق وراجع لك».
جلست على حافة «الفسقية» التي تتوسط صحن الدار، بينما تأنس أذناي لخرير مائها وتشخص عيناي نحو أشجار الياسمين الهندي وزهور الجهنمية المتوهّجة. لاحظتُ أنه زرع أكثر من شجيرة جهنمية مفسحًا المجال أمامها كي تتداخل ألوانها المختلفة، ليبدو الأمر في النهاية كشجرة واحدة يجتمع فيها الأبيض بالبنفسجي والوردي والأحمر.
كان عبير زهر البرتقال المتسلل من البساتين القريبة لا يزال يملأ أنفي، وبدت السماء فوقي صافية على نحو غير مفهوم مقارنةً بالأجواء القاتمة في الطريق الضيّق.
عاد بعلبتيّ بيرة «ستيلا»، ناولني واحدة وشرب رشفة من الأخرى. أشار إلى باب قريب فسبقته نحوه. دخلنا إلى قاعة خافتة الإضاءة بتأثير ستائر مخملية مسدلة. كان ثمة عشرة أشخاص يتحلَّقون فوق بساط من الفرو، مستغرقين في مناقشة منعتهم من الانتباه لنا، انضم لهم وأشار إليّ أن أحذو حذوه.
ضايقني عدم تمكني من رؤية وجوه من أجالسهم بوضوح، ثم تجاوزت الأمر حين علا صوت مضيفي وهو يقرأ ما ذكر أنه الأصل الذي اُستلهِمت منه حكاية «مدينة النحاس». أنصتَ الحضور بجدية مبالغ فيها، ولمَّا انتهى بدأ آخر يحكي من الذاكرة مقتطفًا من حكاية حسن البصري، ذلك الذي يرحل فيه البصري إلى جزر «الواق واق» لاستعادة زوجته «منار السنا». بعدها بدأت نقاشات حول التأثيرات الدينية على حكايتيّ «حاسب كريم الدين» و«رحلات السندباد»، وختم أحدهم الحلقة بمداخلة حول ما أطلق عليه: «طيف النبي سليمان كأب مهيمن على فضاء الليالي». اكتفيت بالإنصات، بينما عمل ذهني كجهاز تسجيل يسجل ما أجده لافتًا للانتباه.
ما إن انتهت الجلسة حتى تسلل الجميع مغادرين وخرج صاحب البيت لتوديعهم طالبًا مني انتظاره. أزحت الستائر فتسرب ضوء الغروب الخجول إلى القاعة، وبانت لي زخارف الفسيفساء، والأرائك المكسوة بالحرير في الجانب الآخر منها، في السقف لمحتُ نقوشًا بارزة بدت كطلاسم تضفي مسحة غرائبية على المكان، وفي وسطها شريط دائري مكتوب فيه بالخط الكوفي: «أنا قطرة مطر سالت من سحابة سخية، وتعرف أنها سوف تتبدد على الأرض مختلطة بترابها لإنتاج ما يتعداها». دققتُ النظر في الجملة فكدت أرى مطرًا منهمرًا على غابات وبحار وصحارٍ.