أنت هنا

قراءة كتاب جبل الزمرد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جبل الزمرد

جبل الزمرد

كتاب " جبل الزمرد " ، تأليف منصورة عز الدين ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 8

كانت تسمعه يردد هذا، فيشرد خيالها في بحر من لآلئ تخطف البصر. تحفظ الشعر، وتقرأ ما يقع تحت يدها، وتواظب على الإنصات للنقاشات الدائرة في مضيفة بيتهم، محاولةً ملاحقة أفكار رائحتها في الهواء. كانت أكثر لحظاتها ألمًا، حين منعها أبوها من حضور هذه النقاشات بحجة أنها كبرت، ولا يجوز لها مجالسة الغرباء. لم تستسلم وراحت تتنصت على مجلسهم من وراء ستار، في المساء ترتحل مع كلماتهم إلى عوالم أرحب من جدران البيت وحدود المدينة.

ذات شتاء شاع فيه الجدب، وفرغت مخازن الغلال، لمحها الملك ياقوت خلال إحدى جولاته النادرة على متن العنقاء. مستندة إلى حائط في الباحة أمام بيتهم، رأى فيها أجمل مخلوق صادفه، وقرر أخذها معه إلى قاف مهما كلفه هذا. كان يقطع المسافة الهائلة إلى مدينتها بغمضة عين بفضل العنقاء. لشهر كامل اعتاد أن يحوم على مقربة من سكنها دون أن تنتبه له.

واتته الفرصة حين خرجت مع الجموع للابتهال استجداءً للمطر. وقفوا فوق تل أمام باب المدينة، وقد رفعوا وجوههم المتوسِّلة نحو السماء. بأصوات هامسة رتلوا أدعيتهم، واختتموا طقسهم بالتمرغّ في التراب. مئات الأطفال والنساء والرجال تمرغوا فوق التل وتدحرجوا نحو الأسفل، فيما وقفت تتابعهم مأخوذة بطلاوة أهازيجهم المتضرّعة، فبانت بجسدها الممشوق وشعرها البني المستسلم لمداعبات النسيم، مثل رَبَّة تبارك المتعبدين طمعًا في غفرانها. في اللحظة التي رفعت فيها رأسها لأعلى وأغمضت عينيها وارتسمت على شفتيها ابتسامة استرخاء، حلّق الطائر الخرافي على مقربة منها، فجفلت، لكنّ يد ياقوت، كانت أسرع من انتباهتها، التقطها كما لو كانت طفلة، وأجلسها أمامه، فضاعت - عبثًا - محاولاتها للإفلات.

لم ينتبه الغارقون في ابتهالاتهم إلاّ مع صرختها الثالثة. من نظروا أولًا، رأوا ذراعًا قوية ترفع ابنة مدينتهم في الهواء، أما من تأخروا عن متابعة ما جرى، فأبصروا فقط جناحين عملاقين بلون بنفسجي يكادان يحجبان الأفق، ولم يصدقوا رفاقهم حين أقسموا أن رجلًا فوق هذا الطائر خطف نورسين وطار بها إلى حيث لا يعلمون.

عندما هطل المطر بغزارة لمدة أسبوع، قال أهل المدينة إن ابنة العلاَّمة كانت القربان لغيث لم يشهدوا مثله من قبل. لم يترك والدها مكانًا في «جولستان» وما جاورها إلاّ وبحث عنها فيه، وفي النهاية عكف على الغوص بين مجلدات مكتبته، علّه يجد فيها تفسيرًا يقبله عقله. ظلّ يبحث حتى مات كمدًا.

خلال ثوانٍ قليلة وجدت نورسين نفسها فوق جبل هائل مادته من الزمرد المصقول ومحوره من الياقوت وبحيراته من فضة سائلة تنعكس عليها أشعة الشمس نهارًا فيتراقص الألق فوق صفحتها، وتتفاداها الأبصار، وفي الليل ينعكس عليها ضوء القمر فتتحوّل إلى مرايا برّاقة يتأمل القمر فيها نفسه كنرجس مضيء!

حاولتْ الهرب مرارًا، ولم تصدق الملك حين أخبرها أن مدينتها تقع على بعد سنوات. بكت لأسابيع وامتنعت عن الطعام حتى كادت تهلك، قالت لها الوصيفات إن الجبل الزمردي أكثر الأماكن عزلة في العالم، كيف لا وملكة الحيات تلتف حول هيكله كأنما تعتصره؟ حية لا مثيل لها تحميه من تطفل أي مخلوق، كما تمنع سكانه من مغادرته وتبقيهم أسرى سجن من زمرد ثمين.

وحده الملك ياقوت - ومعه الجان والطيور الجارحة – كان يسافر بحرية من قاف إلى الجبال والبقاع الموغلة في البعد حد التلاشي. على متن العنقاء يستطيع التحليق من مكان لآخر قاطعًا في لحظات أسفارًا تحتاج إلى أزمان طويلة.

في النهاية استسلمت نورسين لمصيرها مؤقتًا على أمل النجاح، مع الوقت، في تغييره. كلما اشتاقت إلى عالمها القديم فكرت في العنقاء، الرابضة في عش آمن مطمئنة إلى أن أحدًا لا يجرؤ على تعكير صفوها. تتخيل ذلك الطائر الخرافي، يطير بها إلى بلادها، تتذكر لونه الأرجواني المتوهج، فتفكر في أنه الوسيلة والغاية في آن.

حين ظهرت عليها أعراض الحمل، بدأت تتعامل مع وجود ياقوت في حياتها كأمر واقع عليها التأقلم معه، لم تكن تعلم عنه وعن عالمه إلاّ أقل القليل، على العكس من نهمها للمعرفة وهي في «جولستان»، باتت غير مكترثة، وابتلعت فضولها مع تربعها على عرش قاف.

لم تعرف من أين أتى ياقوت! ولا كيف أصبح ملكًا على كل جبال العالم وأحجاره الكريمة، ولا لماذا اختار الإقامة في هذه المدينة المعلَّقة فوق قمة جبل لم ترَ له مثيلًا من قبل.

عرفت فقط، أنه من بين كل الأحجار وقع في هوى الزمرد. كيف لا وهو يبصره في كل شيء حوله فوق قمة قاف؟ أخبرها، وهو يتأمل جدران قصره الزمردي، أنه رأى في خضرته المتدرجة المُكَمِّل لأحمر الياقوت. فقالت: «سنسمي مولودنا القادم باسم الزمرد سواء أكان ذكرًا أم أنثى. مرامي أن يكون له بعض من حُسن الزمرد وسِرّه. فكما تعرف، أعزّك الله، لكل امرئ من اسمه نصيب».

الصفحات