كتاب " جبل الزمرد " ، تأليف منصورة عز الدين ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب جبل الزمرد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

جبل الزمرد
بانضمامي لهذه النخبة، قطعت خطوة كبيرة، لكن نهمي وطول رحلتي يمنعاني من الرضا. لم يكن من الصعب تعميق معرفتي بالبروفيسور في فترة قصيرة نسبيًا بالنظر لمشاركتنا في أكثر من مؤتمر دولي معًا، وولعنا المشترك بـ»ألف ليلة وليلة». بسهولة كنا نمد خيط النقاش بيننا حول كل ما يخصها. كانت دعوته لي لحضور جلسات جماعته «دراويش الليالي» مسألة وقت. أستاذ سابق في جامعة «ليدن»، مهووس بفكرة النص الأصلي لـ»الليالي»، وحالم بتنقيتها من إضافات المترجمين وما يسميه باحتقار «القصص المزوَّرة». يكاد يحفظ مقاطع كاملة من طبعة «محسن مهدي»، ويتحفظ عندما أتحدث أمامه عن اهتمامي بإحدى الحكايات المضافة. من بين أبحاثي العديدة، لفتت نظره دراسة صغيرة عن تمثيلات الجبال في «ألف ليلة».
«ملاحظات جديرة بالاهتمام»!
قال بنصف ابتسامة محافظًا على اقتصاده اللغوي ونفوره من المبالغة والمجاز، ففطنتُ إلى أن هذا أقصى مديح يمكن أن يناله منه أحد. وهو يدعوني إلى بيته الواقع وسط بساتين الفاكهة، أخبرني أن هناك مفاجأة في انتظاري، فعرفت أني على وشك الانضمام لناديه الحصري.
عندما تأخر، خرجت من القاعة إلى الفناء، جلست من جديد فوق حافة الفسقية أتأمل المشربيات والقمريات المصنوعة برهافة من الخشب البغدادي.
لم أنتبه لعودته إلاّ وهو يضع يده على كتفي، بينما يقول بزهو طفولي:
-إيه رأيك في بيتي؟ شَبَه بيت أثري زرته في دمشق!
كدت أسخر من مفارقة أن يفخر المهووس بالأصل الذي أعرفه بعمل مقلَّد؛ تحريف لنسخة أصلية، غير أني بلعت تعليقي مجاملةً له، واحترامًا للبيت المصمَّم بإتقان.
-رائع.
رددت بحماسة.
لم أرغب في المناورة، سألته من دون مواربة إن كان يعرف حكاية «نورسين وملكة الحيَّات»، وأخبرته بخطوطها العامة. ذكر أن لديه أكثر من صيغة لها، لكن لا يمكنه الجزم أيها الأدق.
كان هذا بالضبط ما أريده، أن يمنحني مفاتيح الروايات المتاحة عن حدوتة نورسين، ومن ثم أقارنها مع ما بحوزتي عن «جبل الزمرد»، وعبر لعبة تباديل وتوافيق تطرح كل الاحتمالات أصل إلى ما يفترض أن يكون صيغتها المثلى. لسبب ما همَّش أسلافي سيرة نورسين زوجة ملك «قاف» كأنها وصمة عليهم التخلص منها.
***
وُلِدت نورسين في مدينة تُدعى «جولستان»، تقع بين جبال مكسوة بنباتات زاهية الخضرة وبحر هائج باستمرار، كان والدها علاّمة؛ أتاح لها مكتبة عامرة بكتب الطب والفلك وأخبار الأمصار المختلفة. كبرت وهي لا تتخيل لنفسها موطنًا آخر. لم يخطر ببالها قط أن القدر كتب على جبينها الانتقال إلى مكان ما كان لها تصوُّر وجوده.
في «جولستان» حيث قضت طفولتها وصباها، قلة فقط هي من أتت على ذكر جبل قاف، وأفراد معدودون على الأصابع هم من حفظوا شذرات من أسراره. فعلوا هذا دونما يقين بوجوده الحقيقي. تراءى لهم في المسافة المخاتلة بين أساطير الأولين والحقائق غير المبرهَن عليها.
إلى جانب هذه النخبة، كان ثمة شريحة أعرض لم تسمع بالجبل السحري إلاّ في مقام الوعيد. كان التهديد بالنقل إلى ما خلف قاف أقوى أنواع التهديد. ومع أن أحدًا لم يتيقن قط من حقيقة الهيكل المقدود من الزمرد، ومع أن الحكايات المروية عنه تُجمع على أنه يبعد بمقدار سنوات عن أقرب مكان له، بقيَ منبعًا للرهبة بين من سمعوا به. عجز معظمهم عن تخيل جبل تنتهي بنهايته الدنيا وتبدأ حدود الآخرة، وتقع خلفه سبعون أرضًا من ذهب وسبعون أرضًا من فضة، وسبعون أرضًا من مسك.
في صباها كانت نورسين تسمع أباها يتحدث مع رفاقه عن قاف. اعتاد أن يؤكد أنه ليس مكانًا حقيقيًا، إنما جوهر الحقيقة صعبة البلوغ.
«في الطريق المستحيل إليه، يمكن لأي شيء أن يحدث! كم من سفن ضاعت وكم من أساطيل تاهت، وكم من رحالة فقدوا البوصلة والدليل، وهم يحلمون بالطَّوْد الأخضر المحيط بالدنيا والمُحدِد لخط الأفق، ولا يفصله عن السماء سوى 80 فرسخًا. قاف هو الحرف القابض على سر وجودنا والمُلم به كمحارة تحتضن لؤلؤة»!