كتاب " جبل الزمرد " ، تأليف منصورة عز الدين ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب جبل الزمرد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

جبل الزمرد
راقته الفكرة، وتمنى أن يكون المولود أنثى بعينين برَّاقتين كحجري زمرد، خضراوين كجبل قاف. بعد بضعة أشهر جاءت زمردة إلى العالم كملاك رقيق بملامح آسرة وعينين لامعتين. هادئة، لا تكاد تبكي، تُرقِدها أمها على ظهرها فوق الفراش فتتأمل السقف تأمل الحكيم العارف.
كانت كأنها مولودة بمعرفة هائلة رغم صمتها. في البداية ظنها أبواها بكماء لأنها حتى سن العاشرة لم تنطق بكلمة واحدة، كانت فقط تطيل النظر بعينين باسمتين مرتاحتين.
في سن السابعة، وبسبب إلحاح أمها، أحضر لها والدها كبير حكماء قاف كي يعلِّمها الحرف، ويغرس فيها بذور الحكمة، كان الرجل يطيل الشرح محتارًا، غير واثق إن كانت تفهم ما يقول، أو حتى تسمعه، أم لا. كانت تنظر إليه من دون أن تتكلم. من جانبه أدى مهمته متغاضيًا عن مسألة عدم التواصل، كان يتحدث عن الفلسفة وأصول الطب والجبر والفلك، ويحكي عن ممالك بعيدة في السِند والهند، ووراء بحر الظلمات، يحكي عن طيور الرخ المحلقة باستمرار فوق مدن موغلة في البعد كأنها سماء داكنة موازية للسماء، وعن رحالة يرتادون الآفاق غير عابئين بالأخطار، عن الأحجار الكريمة والجبال الممتدة على مساحات شاسعة من مملكة أبيها تفصل بينها بحار ومحيطات بلا نهاية.
رسم لها جغرافيا جبل الماس المحاط بوادي الحيّات، حيث يذبح التجار حيوانًا ويقذفونه في عمق الوادي فتلتصق الماسات النادرة بلحمه الساخن قبل أن ترفعه النسور الجارحة فوق القمة من جديد، فيخيفها التجار ويلتقطوا الجواهر على عجل.
وأفاض في كل ما تجب معرفته عن جبل السحاب الذي تكاد ذؤابته تلامس الغيم، حيث تسكن البنات السبع لملك الجان في قصر لا يستطيع إنسي بلوغه.
أسمَعَها حكايات تخلب اللب عن جن حبسهم الملك سليمان في قماقم سحرية مختومة بالنحاس، وتركهم أسرى زمن ميت.
من السابعة حتى العاشرة من عمرها، حشا الحكيم عقلها، بعلم وافر ورصيد لا ينفد من الحكايات، إلاّ أنه كان يترّدى في هاوية اليأس لشعوره بأنه يكتب على الماء، يضيِّع وقته الثمين مع مخلوق بالغ الجمال لكنه لا يكاد يفقه شيئًا رغم ذكاء عينيه وبريقهما الأخاذ.
يوم عيد ميلادها العاشر، وبينما يشرح لها قوانين البابلي حمورابي، بعد أن عرّفها على أسرار الفرعوني بتاح حُتب، وعلى جغرافيا جبل المغناطيس ولعنته المميتة، بلغ منه اليأس مبلغه. قرر، بتهور، التوقف عن إهانة علمه ورميه أسفل قدمي هذا الكائن الملكي الصامت. لم ينشغل بما قد يجلبه هذا عليه من نقمة وعقاب. ندم - قبل كل شيء - على خيانته لقناعته الراسخة بلا جدوى تعليم الإناث.
نظر إليها بحسرة، ففهمت ما يفكر فيه، وأرادت ثنيه عن قراره، فكان عليها أن تهجر عالم الصمت. نطقتْ بكلماتها الأولى:
-سيدي ومعلمي لم يضِع جهدك سدى، ويومًا ما ستتيقن من هذا!
كان صوتها واثقًا، وآمرًا بلطف، كأنما تدربت على جملتها هذه مئات المرات، كي تترك الأثر الذي تركته في نفس الحكيم. تخلى الرجل عن وقاره، صرخ فرحًا، وركض لإخبار والديها أن ابنتهما ليست بكماء صمّاء كما خُيّل لكل أهالي المملكة.
من يومها واصلت زمردة الحديث بصوتها ذي الرنة المعدنية العصية على النسيان، وكأنما ترغب في تعويض سنوات صمتها، انكبت على التعلم بنهم لم يصادفه الحكيم مع أيٍّ من مريديه. لاحظ انشغالها بالعالم خارج حدود قاف، وسؤالها الدائم عن أكثر الممالك نأيًا كأنها ورثت عن أمها هوسها بالرحيل. كانت متعطشة للحكايات؛ للنهل من عجيبها وغريبها. استفسرت مرارًا عن قماقم سليمان، وكيفية تسخير الجن،. استفسرت عن عشبة الخلود، وهل من سبيل للوصول إليها؟ وعن طريقة لترويض جبل المغناطيس واستئناس أحجار الجنون الفضية.
سعى الحكيم لجرّها إلى أرض الواقع وعلومه، غير أن غرامها الأول كان الغيبيات. درست على يديه العلوم والرياضيات، لكن كيانها كله كان مع الخيال وعوالمه المغرية.
***
كان ميلاد زمردة قد مثَّل نقطة تحول في حياة نورسين، إذ تغيرت صلتها بالحياة في «قاف». صارت ابنتها وطنًا بديلًا لها. كانت تتأملها بالساعات، في سنواتها الأولى، مبتهلة أن تخصها ولو بكلمة واحدة، وكادت تجن من الفرحة عندما نطقت الصغيرة أخيرًا وهي في العاشرة من عمرها.
بدت الأم وقتها كأنما نسيت حنينها لمسقط رأسها، وغربتها الإجبارية في بلاد لا تهمها في شيء، لكنها في العام الأخير قبل اختفائها، داهمها حنين مَرَضي. كانت شوارع مدينتها وأزقتها تسكن أحلامها. كانت ترى الطرقات والميادين والحارات كما لو أضحت خالية إلاّ من مبانيها وأشجارها، لا بشر ولا حيوانات ولا طيور. ثم زارها طيف لعملاق بمسوح داكنة يقطع دروبًا وعرة، وأبى أن يغادر مناماتها. كانت تتابعه كل ليلة تقريبًا وهو يذرع طرقًا لا نهائية بينما تسير خلفه، وفي ذهنها أنه من سوف يدلها على طريق العودة.
ليلة بعد الأخرى، غلبتها الرهبة بينما يمر بمدن مُقبضة، واستسلمت للبهجة وهي تبصر أضواءً تنعكس فوق قباب كريستالية هائلة، وحبست أنفاسها فيما يتسلق دَرَج جبل حالك السواد، مهدَّدًا بسقوط مدوٍ مع كل خطوة. تركته يغالب قدره في رحلة صعوده، ووجدت نفسها على قمة الجبل تستمع لصوت أبيها كأنما يقرأ من كتاب:
«في المسافة اللا نهائية بين جبلي المغناطيس وقاف تكمن أسرار الوجود وخباياه».