أنت هنا

قراءة كتاب ولها في الأرض جذور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ولها في الأرض جذور

ولها في الأرض جذور

كتاب " ولها في الأرض جذور " ، تأليف سليمان سليمان ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 2

ولكنَّ هذا الصباح كان بارداً ونسمة الهواء تلسعه "والغطيطة"، أي الضباب الكثيف في الوادي المواجه له، تهب صعداً كأنها التبن عندما يهب من "مكنة الذراية". كما أنَّ الندى كثيف هذا الصباح وهو ملائم جداً لجمع القش "وتربيطه" رزماً في "بنادك" تُحمل على ظهور الجمال إلى البيدر. وكذلك ملائم للحليشة، وخاصةً حليشة القطانة أي العدس والفول والكرسنة.

وهاهم الفلاحون يمرّون أمامه ذاهبين إلى حقولهم، برفقة حميرهم وأبقارهم وماشيتهم. فهذه جماعة من النسوة ذاهبات للحليشة وهن يثرثرن ويتصايحن. وهذا جارهم الفلاح ابو حسين ينهر بقراته، وقد حمّل على الحمار الزوادة ومطرات الماء وربطات شريط تربيط رزمات القمح.

لقد غمره شعور عارم بالفرح والسعادة، لأنه لن يذهب "للتربيط" اليوم، لأنه أكثر أنواع عمل الفلاح مشقة، وخاصة تربيط القمح. فكم من مرّة لدغته العقرب عندما مّد يده ليرفع غمر القمح عن الأرض، ناهيك عن الأشواك التي تنهش يديه كالأبر وتدميها، وأحياناً عندما ينحني ليرفع غمر القمح إلى صدره تلطشه شوكة في قفاه فتُدميه.

فتجميع "أغمار القمح" هو أصعب شغلة في عمل الفلاح وخاصة إذا كان الندى خفيفاً أو في حدَّة الشوب.

ها هي أمه تأتي من فوق، من ناحية الضيعة أو بالأحرى ها هو يسمع صوت أمه، وقد سبقها صوتها وهي تولول وتشكو لجمهرة الفلاحين الذاهبة إلى الحقل. لأنها غير راضية عن ذهابه للعمل في بيروت. فهي طلعت من دار الدنيا عليه، بعد أن أُصيب في المجزرة، فأولادها كلهم ماتوا وهم صغار وزوجها قتله اليهود يوم مجزرة الـ48 فلم يبقَ لها سوى محمد وأخته. وها هو محمد يتركها ويذهب إلى بيروت. لقد دهى بعقله ابن خديجة، وهي لا تريده أن يتركها ويذهب للعمل هناك حتى لو كانت كلها مفروشة ذهباً. فهو هنا يعمل درّاس عند خاله في دراسة القمح على البيدر، وأُجرته "كيل من القمح" وخاله وعدها بأنه سيدرس لها "شكارتها" كذلك. ووعدها أنه إذا كان موسم الحبّ "إقبالاً" سيزيد له الأجرة ويعطيه "نصف مدِّ قمح" زيادة. وهو يعمل عند خاله وليس عند رجل غريب، وخاله مثل والده وهي ليست إهانة له إذا خاله غضب وطلع خلقه وضربه كم قضيب على ظهره، ثمَّ ندم ولام نفسه وأتى إلى البيت عشية وأرضاه وطيَّب خاطره. بس ماذا بودِّي أن أفعل: طالع للمرحوم، الروح التي اندبت بالمرحوم والده اندبت فيه مخلق، منطق: عناده، ورفعة "مناخيره" أنفه.

عوَضُ خديجة دها له بعقله. كل يوم يروح ويتمشى على "الكروسة"، على الخط ويمرّ بقربه وهو واقف على النورج يدرس القمحات على البيدر. ويقف طول النهار بعين الشمس وراء الفدان، بيده الحبل ليشدَّ رأس الثور، وبيده الثانية القضيب لينهر الثور الثاني، وبين الفينة والفينة يحمل التنكة ليلتقط بها روث الفدان حتى لا يقع الروث على القمح.

ويمّر بقربه عوض خديجة كل ساعة، وهو داهن رأسه بزيت شعر بيلمع بعين الشمس. ولابس قميص نيلون أبيض بيرهج رهج، وبنطلون مكوي وصباط أسود بيلمع. فَلِمَ لا يغار منه؟ بس هو مش عارف أنَّ حبل العتالة أكل من ظهره شلخات. محمد بيشوف قميص النيلون بس. ما بيشوف شو في تحت القميص. طمعان بالنومة عند أم داود، عشرين ثلاثين شخص ينامون بقاووش واحد والقمل يسحبهم.إذا ضربه خاله كم قضيب يعتبرها إهانة له، بس العتالة بالسل مش إهانة.

وصلت أمه ووصل الفلاحون الذين كانت تشتكي لهم ووقفت أمامه. أما هم فتابعوا سيرهم، ومنهم من حاول إقناعه ببعض الكلمات ومنهم من حاول إقناع أمه دون أن يتوقفوا بل البوسطة هي التي وصلت وتوقفت. وصلت البوسطة ووصل معها عوض، فحاولت أمه أن تشتمه وتعتب عليه ولكن لهجتها خفَّت وأصبحت أكثر حنواً.

فالوقت أصبح حرجاًًًًًً وضيّقاً وهي تعرف أن لا مفرّ لولدها من تنفيذ قراره. فما عليها إذاً إلا أن ترجو من عوض أن ينتبه له ويدير باله عليه ويتوصى به. فهو الآخر مثل ولدها وقد أرضعته من ثديها مع ابنها محمد، فهما مثل الأخوة منذ الصغر وعاشا الطفولة مع بعض، وأخذت تدعو الله لأبنها ولعوض كذلك وتترضى عليهما وقد غصّت بالبكاء، فأخذت تمسح دموعها عن عينها بطرف منديلها. فجعلت إحدى النساء تخفف عنها وتهّون الأمر عليها، وتقول لها الغربة للرجال وإن لم يتغرَّب المرء لن يصبح رجلاً. وفي هذه الأثناء كانت صرّة الفرش تأخذ طريقها إلى ظهر البوسطة ومحمد يأخذ طريقه إلى داخلها والبوسطة تأخذ طريقها إلى بيروت مودِّعةً الضيعة بزمور مثلما دخلتها بزمور وأمُّ محمد تأخذ طريقها إلى الحقل.

الصفحات