أنت هنا

قراءة كتاب ولها في الأرض جذور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ولها في الأرض جذور

ولها في الأرض جذور

كتاب " ولها في الأرض جذور " ، تأليف سليمان سليمان ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

ـ 3 ـ

وصل عوض مع محمد إلى دارة أم داود عند الظهر، لذلك لم يجدا في الدارة إلا بعض الأشخاص العاطلين عن العمل لهذا اليوم، أو من تسمح له طبيعة عمله بالتواجد ظهراً في الدارة.

وضعا أمتعتهما في الغرفة التي يسكنها عوض وذهبا إلى أم داود ليعرّفها عوض على المستأجر الجديد، كانت أم داود منهمكة مع بعض النسوة التي استأجرتهن ليساعدنها في تحضير الطعام الذي ستبيعه إلى النزلاء. رحبت به صاحبة الدار على عجل ودون أن تعطيه أي اهتمام، بل شرعت بتوجيه الإرشادات إلى عوض ليوجِّه محمد إلى ما هو مسموح وما هو غير مسموح به في الدارة، وتابعت إعطاء توجيهاتها إلى مساعدتها في تحضير الطبخ فهي مشغولة "ولا تستطيع أن تحك بنقرتها"، كما يقولون. فهي سيدة أعمال بارعة وناجحة وزوجها لا يمون على قلي بيضة في الدارة بوجودها أو في غيابها. فهي الكل بالكل وسيدة الموقف والحاكم الطايل في مملكتها.

بعد أن استراح قليلاً وأعطاه عوض صورة سريعة مجملة عن الحياة داخل الدارة مع أقسامها. وخرج به ليعرفه على المنطقة ويعزمه على الغداء في مطعم أبو عفيف في شارع المعرض القريب. طبعاً فهو ضيف هذا اليوم عند عوض وعليه أن يقوم بواجبه تجاه ضيفه ويستغلها هو الآخر أي عوض فرصة مناسبة يدخل بها إلى المطعم ويتغدى جالساً إلى الطاولة طالباً لكل واحد منهما صحن حمص مع " بصل وكبيس زيادة " وهذا يعني أنه سيدفع "فرنك" أي خمسة قروش زيادة على كل طلبية. ولكن لا بأس فهي مناسبة لن تتكرر كل يوم. فعوض إذا صادف وتغدى في السوق أثناء العمل، فإنه يأخذ رغيف فلافل على الماشي. وطبعاً وهم جالسون إلى الطاولة للغداء كان عوض هو صاحب الحديث فهو الناصح المرشد والموجِّه. عليه أن يوجِّهه إلى العمل أولاً وأن يشرح له طبيعة كل عمل وإنتاجيته. مثلاً العتالة بالحبل أصعب لأنها للأحمال الثقيلة أما العتالة بالسلّ فهي أهون لأنها للأمال الخفيفة. ولكن العتالة بالحبل منتجة أكثر، ولكن محمد، حسب رأي عوض، غير قادر على العتالة بالحبل لأنه غضُّ العود ولم يتعوّد على ذلك. ولأنه كان جريحاً ونجا من الموت بأعجوبة في مجزرة الـ48، لذلك عليه أن يختار العتالة بالسل هذا إذا اختار هذه المهنة.

وإذا اختار غيرها كبيع اليانصيب مثلاً عليه أن يكون حذراً بالمحافظة على غلّة اليانصيب خوفاً من أن ينشلها منه النشَّالون، وخاصة أنه لا زال جديداً في بيروت وتنقصه الخبرة للتعرف عليهم. وقد يكون الأفضل له أن يبيع أكياس ورق الكيس بخمسة قروش، يبيعها للناس الذين يتسوَّقون، خاصة في سوق الخضرة. فهذه المهنة أسهل عليه وانتاجها لا بأس به، خاصة إذ تطور في مهنته وأصبح يشتري أكياس ورق شوالات الترابة الفارغة ويصنع منها الاكياس بنفسه عشية في الحوش عند أم داود ويبيعها نهاراً. ولكن عليه في الوقت الحاضر أن يكتفي في البدء بشراء أكياس جاهزة، كلَّ كيسين بخمسة قروش ويبيعها بالمفرق الكيس بفرنك حتى يكون قد تعرّف على السوق وطرق البيع، إذ يمكنه أن يبيع كميات أكياس ورق إلى أصحاب محلات الخضرة وغيرها.

كذلك بإمكانه أن يبيع موزاً وذلك بأن يشتري "قرط موز" ويدور في السوق ويبيعه بالمفرق الموزة بفرنك. فهذه مهنة لا يحتاج فيها كذلك إلى رأسمال كبير وتعطي ربحاً على النص تقريباً.

وما إن انتهيا من الغداء حتى كان عوض منتهياً من تعداد فرص العمل المتوافرة لمحمد، مع إعطاء صورة عن طبيعة كل عمل. وما على محمد إلا أن يقرر العمل الذي يراه مناسباً.

فقرر محمد بسهولة، لأن قراره مرحلي ولم يكن مصيرياً أو تاريخياً "كقرارات الجامعة العربية التي تتخذ كل يوم عشرات القرارات". لقد قرر محمد أن يختار المهنة الأصعب: أن يختار العتالة بالحبل على الأقل، ليثبت لعوض بأنه ليس غضُّ العود. فمن يعمل بالحقل ودراسة القمح على البيدر لن تصعب عليه العتالة بالحبل. وحتى لا يأخذ التردد إلى نفسه طريقاً طلب من عوض أن يمرا إلى حيث تباع حبال العتالة الخاصة بهذا العمل، واشترى حبلاً. وتابعا التجول في الأسواق والشوارع القريبة والحبل على كتفه يختال في الشارع وكأنه ضابط وضعت على كتفه نجمة للتوّ.

وتابعا التجول في الأسواق والشوارع القريبة والحبل على كتفه وكأنه كان يعوّد نفسه تدريجياً على مهنة المستقبل، وسيلة العيش الأولى لأغلب الجنوبيين النازحين من قراهم بداية الخمسينيات إلى بيروت.

وباختيار محمد لمهنة العتالة حلّ كثيراً من الإشكالات والصعوبات. فبإمكانه أن ينزل إلى السوق مع عوض الذي هو أيضاً يعمل بالعتالة بالحبل فيدربه على أسرار المهنة وطبيعتها وهكذا كان. فبعد أن سهر تلك الليلة مع الشباب وأخذ محمد مكانه في مجموعة عوض معززاً مكرماً. نزلا في صباح اليوم التالي إلى السوق إلى معترك الحياة. هذا المعترك الذي طالما تاق إليه محمد بشوقه وأحلامه. كان هاجسه الأكبر وهو في الضيعة أن يطرق أبواب المستقبل ويدّق أبواب بيروت علَّها تفتح له أبواب السعادة والطموحات والحياة الرغيدة. ولكنه لم يكن يعلم أنه كمن يضرب بيده سور قلعة، محاولاً فتح فجوة فيه، فستتآكل يده وكل جسده معها دون أن يؤثر ذلك بالسور سوى بضع بقع من دمه قد تبقى على السور لحين.

الصفحات