كتاب " طبيب في الجيش " ، تأليف د. ياسر سبسبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب طبيب في الجيش
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

طبيب في الجيش
ـ الخبيثة تريد أن توقعني في شركها، وربما تريد أن تتسلى معي في أوقات الفراغ الكثيرة في هذا المستشفى الكسلان، إنها ليست ساذجة وعفوية وبريئة مثل بعض فتيات العشرين في هذه المدينة الأنثى التي تمشط شعرها صباح مساء على ضفة الفرات، لكنها ماكرة في حياكة الشباك العنكبوتية.. قال في نفسه وهو يتذكر التواءات جسدها المرن عندما كانت ترتّب غرفته في أول يوم جاء به إلى المستشفى، حاولت الدخول قسراً من باب ضيق يقف فيه أبو علي حارس المستشفى وحارس حركات العاملين فيه، متقصّداً ألا يفسح لها! هي تريد أن تثبت شيئاً مثبتاً سلفاً، أن الفتاة الجميلة تستطيع دخول كل الأبواب دون استثناء، وعبور كل الحدود دون سلاح، فسمة الدخول مدموغة فوق شفتيها ووجنتيها، وجميع الحرس يرفعون الحواجز والحواجب لعينيها وقدميها. قال لها بنية خبيثة:
- انتبهي على حالك!
فقالت له بدلع ومكر وهي تدفعه بيديها الناعمتين:
- على ماذا! ليس لدي ما أخاف عليه!
فردّ أبو علي بمكر أكبر مع غمزة من عينيه البدويتين الضيقتين:
- أنت متأكدة من هذا الكلام؟
- من لا يصدّق يجرّب، قالت بجرأة وهي تضحك ضحكتها المعتادة وكأنها تمثّل إعلاناً تلفزيونياً رخيصاً!.
بدا الذهول واضحاً على وجه الدكتور رامي وهو يراقب المشهد التمثيلي، وظنّ إلى حدّ ما أنّ هذا الكلام المغري موجّه إليه ببثّ مباشر وهو خارج الشاشة، وليس لذلك الرجل العجوز الذي أخرج المشهد.
ركّز نظراته على جديلتها النشيطة وعلى ضحكتها المعروضة على الرصيف الخالي من المارّة مع أعضائها البارزة تحت ثوبها الشفاف ولا من مشترٍ، من أقسى الأشياء على النساء أن تكسد سوقهنّ، ولذلك نرى أسواق النساء من أجمل الأسواق في العرض والتسويق حتى تحافظ على جاذبية لا تنتهي، لا أقصد أنها سلعة تباع وتشترى، لأن السلعة هنا غالباً ما تشتري هي الزبون الذي هو الرجل، أما أبو علي فإنه لا ينفكّ يسوم هذه المغريات الكثيرة، فهو يغازلها مغازلة المسنّ الماكر، ثم يدغدغ خدّها بإصبعيه موهماً الحضور أنها ابنته المدللة، ثم يعود فيتحدث عنها بالسوء في غيابها!.
- على كل حال سنرى يا هيفاء. قال ذلك في نفسه وخرج مسرعاً دون أن يقطع أحلام أبي علي البدوية، وشخيره العجوز.
***
استقلّ الحافلة الصفراء الهرمة التي استهلكها الجنود منذ أعوام ولمّا يسكنوها دار العجزة بعد، كانت تقلّ يومياً مجموعة من العسكريين إلى المطار البعيد، جلس حسب النظام العسكري في مقعده الذي يتناسب مع نجمته الوحيدة على كتفه، خلف الضباط وأمام الجنود وصف الضباط. الجميع يحترمونه لكونه طبيب الثكنة، يتودّدون إليه، وبعضهم يتزلف طمعاً في الحصول على المزيد من الأدوية والإجازات المرضية عند اللزوم.
لكن شيئاً من التردد كان لا يزال يحول دون أن تربطه صداقة حقيقية مع أحدهم، كان يعزي ذلك إلى طبيعة شخصياتهم العسكرية التي تختلف كثيراً عن شخصيات رفقائه السابقين في الجامعة.
لكنه كان معجباً بواحد من الضباط الطيارين ذي رتبة عقيد، يلقبونه بالنسر، كان من أمهر وأنبل النسور الجوارح، يتمتع بمحيّا جميل ووقفة شامخة، له عينان جريئتا الحدود، تصدر عنهما نظرة حادة وثاقبة، كان دائماً يفتخر ببطولاته في قيادة الطائرة الحربية رغم أنه لم يخض حرباً قط، حيث كان لا يزال طالباً في الكلية الجوية في أثناء حرب التحرير في السبعينيات، وقد روى الدكتور رامي ذلك بلسانه أمس في حضرة أبي علي:
ـ أكاد أجزم أنه سيكون بطلاً فعلياً في أيّة حرب يشترك فيها، وذلك لأن الجسارة والإقدام وقوة الشكيمة ورباطة الجأش بعض من صفاته، يشهد له رفقاؤه بالكفاءة والبراعة والنزاهة، وتشهد أفعاله له بالتحدي والعنفوان والشهامة، يهرول قلبه الجريء حافياً فوق الأشواك، ويمشي بنبضه آلاف الثوار، فتبدو الشجاعة عنده كشلال متدفق، إنه متوقّد الذهن، محبّ للوطن، وكنت أشاهده يومياً كيف يتقن عمله ويمارسه بمهارة وهواية وشغف، فمن يمارس عمله بشغف يبدع فيه، كان يتحدّث عن حركاته في الشقلبة البهلوانية خلال التدريبات، حركات الإقلاع السريع، الالتفاف والنزول الحلزوني، أو قيامه بتحدّيات يصعب على الآخرين القيام بها، أو تعامله مع مواقف معقّدة وطارئة تعرّض لها.
توطّدت علاقته بالدكتور رامي عندما ساعد الأخير ابنه نضال على التسجيل بكلية الطب، أعطاه معلومات كاملة عن الجامعة وطريقة التسجيل، أرسله إلى بعض معارفه ليقدّموا له كل ما يحتاج إليه، وأوصى كل زملائه المدرّسين به، كما توسّط له ليحصل على غرفة يسكن فيها في المدينة الجامعية، شكره النسر على كل ذلك وكنّ له المودة.
في كل صباح وفي الاجتماع اليومي للطيارين حيث تجتمع النجوم والنياشين على الأكتاف، وتستعرض الجوارح والأسود والثعالب والطواويس كل ما في جعبتها من فنون، كان النسر يكثر المزاح ويكثر التباهي، يحبّه الجميع ويعجبون بثقته بنفسه، وبعضهم يحسده ويغار منه وهو يعرفهم بالاسم، كان يقول على مسمع الجميع: