كتاب " طبيب في الجيش " ، تأليف د. ياسر سبسبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب طبيب في الجيش
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
طبيب في الجيش
- الحمد لله.. أنت تنام هنا وتأخذ مالاً، وهذا أفضل من أن تنام في الثكنة مجاناً وبدون راحة بال! قال مازحاً وهو يضحك، لكن الدكتور رامي انزعج من طريقته في المزاح وأراد أن ينهي الحديث ليذهب للنوم، أخذ أبو علي الحساب لكونه المحاسب والحارس والمدير وهو الكل بالكل كما يقول:
- أنا هنا الكل بالكل بعد الدكتور عبد الجواد صاحب المستشفى..
انقطعت هذه السلسلة من الصور على صوت خرير المياه في دورة المياه، فقد استغلّ فرصة استيقاظه ليريح مثانته حتى لا توقظه مرة أخرى، عاد إلى سريره وأخذ يقلب موجات المذياع..
- لا يوجد إلّا الأخبار التي تجهد في تكويمها شرور البشر، وغالباً ما تفوح روائح العفونة من أكوام الأخبار التي لا تلفحها شموس الطبيعة، ردود أفعال على مؤتمر مدريد للسلام، قناة أخرى.. فاروق الشرع وزير الخارجية السوري يفجر قنبلة سياسية في المؤتمر بعرضه صورة لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير كتب عليها "إرهابي مطلوب للعدالة"، قناة أخرى.. الرئيس الأسد قرر صنع السلام مع إسرائيل،.. أخبار عن السلام، ها، ها،.. وأنا في حرب فكرية هنا!
(عاد إلى الشرود)، ربما يحلّ السلام وتنتهي الخدمة الإلزامية سريعاً، تتحسن علاقاتنا مع كثير من الدول، أسافر كي أتابع اختصاصي في إحداها، أبحث مع حبيبتي الجميلة عن بيت، وعن السعادة التي لا تزال بعيدة. ثلاثون عاماً ذهبت من عمري، كلها دراسة وتعب وعناء، ولا أزال في بداية الطريق..، أكوّن نفسي! ثم ماذا يعني طبيب!.. بدون أية فرصة لاختراق الحياة العملية.. سنتان من الخدمة الإلزامية، إنهما حاجز جديد في أول طريق الحياة.
يقولون والله أعلم إن نهاية العالم ستكون عام 2000 م! يعني بعد تسع سنوات! يا إلهي! هل يمكن ذلك؟..
أحسّ بتشوش في أفكاره، وتذكّر القلاعة في رأس لسانه، أخذ قرصاً مسكّناً للألم من الخزانة التي إلى جانبه ثم عاد إلى شروده:
- لقد قال أبو علي إنه لن يحدث السلام برأيه! لكن ما علاقة أبي علي بالسلام؟ وماذا يفهم فيه؟ إنه مجرّد بدوي بسيط! ثم عاد فقال:
ـ كلا، إنه ذكي متوقد الذهن، ولديه حدسٌ مصيب، إنه يعرف مثل كثير من الضباط الذين قابلتهم هنا، حتى أنه يفوق الكثيرين منهم جرأة، هو من النوع الذي لا يرهب مصائب الدهر، ليس زهداً أو ورعاً، ولا بسالة وعنفواناً، شيء بين ذلك قد يكون أقرب إلى من مارس تقلبات الدهر، إنه يتكلم بجرأة في كل شيء، في الدين والسياسة والحب والجنس، في الجدّ والمزاح، في الأخلاق والخيانة، لكنه يخاف التكلم على الربّ وعلى الرئيس! تلك حدوده التي وضعها لنفسه، عيبه أنه يغتاب الناس حتى أقرب المقربين إليه! يتكلم على زوجته وبناته! وعلى الدكتور عبد الجواد، وعلى الأطباء الذين كانوا قبلي في المستشفى.
قلت له إنني ارتحت إليه وأحببت طيبة قلبه، رغم أنني أعرف أنه سيغتابني كما فعل مع الآخرين في الخير والشر، إنه يرشّ حروفه الممزوجة بالبهار الحار على أسماع كل من يراه ويسمعه، قد تكون كاوية ولاذعة، وقد تحمل الحقيقة الفجّة.
***
أطلّ الصباح من كهف بعيد مثل صياد نشيط، ومرّ على تلك الصحاري الواسعة ليدخل نافذة المستوصف الواقع في قلب الصحراء، حيث ينام الدكتور رامي، على مسافة ساعة من مدينة الثورة، أطلق الصياد نحو عينيه كالعادة مثل كل صباح حزمة من الأشعة الذهبية وخزت تلافيف دماغه فاستفاقت، حمله الصياد على صهوة الضحى في رحلته اليومية إلى سرب الطيارين، يفحص المرضى ويعالجهم، يستمع لهموم الضباط ومشاكلهم وشكاواهم.
يقول أحدهم:
ـ مللنا الروتين المقيت الذي نعيشه أيام اللاسلم واللاحرب.
ويتهامس بعضهم عن القيد الذي يحيط بأعناقهم خلال حياتهم كلها ويقصدون القيد العسكري طبعاً، وعن الضائقة المالية التي يعيشها معظمهم. يقول آخر:
ـ الراتب ينتحر في اليوم العاشر من الشهر، والعائلة ماشاء الله كبيرة، ولا يجوز أن نمارس عملاً ثانياً كما يفعل موظفو الدوائر الحكومية المدنية أو دوائر القطاع الخاص... يهمس لجاره "فكيف تعيش بما يتناسب مع اسمك كضابط إذا لم تتّبع طرقاً غير شرعية!".
ثم يجرؤ بعضهم على البوح ببعض أحلامه البعيدة في السفر والمغامرة بعد أن يأخذ التعويض الكبير حين يحل السلام ويترك الجيش، وهو بذلك يعترف بعجزه عن تحقيق أحلامه في الجيش وبدون مساندة كبيرة من ضابط كبير سيظل مهمشاً طوال حياته.