أنت هنا

قراءة كتاب حوارات في التدخل الديني والسياسي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حوارات في التدخل الديني والسياسي

حوارات في التدخل الديني والسياسي

كتاب " حوارات في التدخل الديني والسياسي " ، تأليف راتب الحوراني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

ويقول هايدِغر: «حقيقة الإنسان في انفتاحه على الحقيقة».

إن هو إلّا الإنسان، الكائن الفرد، الذي على الرغم من كونه محدوداً في الزمان والمكان إلّا أنه هو الكائن الوحيد القادر على إدراك اللامحدود واللانهائي، وهو محل المطلق على الرغم من محدوديته ونسبيّته. وهل للمطلق من محل غير النسبي؟ وإلّا صار النسبي مطلقاً آخر مستقلاً عن المطلق الأول، وهذا محال ويتنافى مع تعريفِ المطلق. الحقيقة تستوعب ذاتها ونقيضها، بينما الباطل لا يحيط حتى بذاته.

طالما أن إنساننا وشعبنا لم يكتشف حقيقة ذاته كمحل للحقيقة، كمصدر لكل حقيقة ولكل قيمة، فلن تقوم له قائمة. «إن هم إلّا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً».

هذه هي الخطوة الأولى الضرورية للتحرر من كل القيود التي تكبّل الفرد بتصورات وهمية وتمنعه من أن يخطو خطوة واحدة دون الاستناد إلى قوة تقع خارج إرادته ووعيه. كما أنّ الخطوة الأولى التي لا بد منها للطفل حتى يمشي على قدميه هي في أن يستقل عن اليد القوية التي كانت تأخذ بيده. ولكن قبل أن يخطو الطفل الخطوة الأولى لا مفرّ له من محاولات عديدة، ربما بضعة أشهر، حتى يتمكن من السيطرة على حركة قدميه والسير قُدُماً. وهكذا يحقق الطفل درجة من درجات الحرية التي لم يكن منها لديه شيء البتة. فالأطفال لا تلدهم أمهاتهم أحراراً، إذ يولدون في منتهى الضعف والعجز عن الإتيان بأي حركة غير التنفس والهضم، وحتى التنفس قد يتوقف فجأة، وكأن الطفل نسي أن يتنفس ويقع الموت المفاجىء. أمّا إذا لم ينس الطفل التنفس وتوافرت له العناية اللازمة فيبدأ باكتساب حريته درجة درجة من المشي إلى الأكل والشرب، إلى تنظيم هذه الضرورات البيولوجية فيتحرر من وطأتها إذا ما تركت على سجيتها. وهكذا تتواصل مسيرة الإنسان، فرداً وجماعة، في إنتاج الوعي والمعرفة بالعالم المحيط به وبظواهره على اختلافها واكتساب المزيد من الحرية بعد أن كان عبداً لجهله المطبق. ولكن عندما كان المجتمع منقسماً إلى عبيد وأسياد عبيد كان المرء يولد عبداً في بيت العبد، أي من أبوين عبدين. أمّا إذا كان الأب والأم من طبقة الأحرار الأسياد فيولد الطفل حراً، أي منتمياً بحكم الولادة إلى طبقة الأحرار الأسياد. وهذا لا يمنع تحول السيد إلى عبد أو إلى «مولى» (منزلة بين العبيد والسيد الحر) كما قد يتحرر العبد إذا أعتقه صاحبه. في هذا السياق أطلق عمر بن الخطاب قولته الشهيرة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!» .

هناك من يريد أن يحمّل هذا القول أكثر مما يحتمل وكأنه يؤسس للحرية كما نفهمها اليوم، في حين أنه لا يزيد عن كونه تكريساً للطبقية السائدة آنذاك. كما هو معروف عن عمر، الحريص على إنزال الناس (؟) منازلهم، موقفه من حجاب الأمَة إذ كان كلما رأى أمَة تضع حجاباً يضربها بعصاه وكأنها ارتكبت جريمة! وهو كذلك فهذا قانون الحجاب في عهد عمر: الحجاب للحرة وليس للأمَة!

إذن الخطوة الأولى هي في اكتشاف الذات لا كمركز للكون بل كمركز للعلاقة التي تربط ما بين الذات والعالم المحيط بها. والخطوة الثانية تتلخص في اكتشاف الذات عند الآخر، وبالتالي إقرار المساوة بين الذات والذات، أو الاعتراف بالآخر كمثيل للذات.

هذا هو المنعطف الحاسم الذي يطبع بطابعه العصور الحديثة والحداثة عموماً ويميزها عن مراحل الاستلاب على اختلاف أشكاله. عند هذا المنعطف، الأقرب إلى الثورة الكوبرنيكية، لا يكتشف الإنسان حقيقة ذاته كفرد فحسب، بل يكتشف حقيقة الآخر، مثيله في الإنسانية، من حيث هو ذات مماثلة له. فالوصول، بالوعي أولاً وفي الممارسة ثانياً، إلى درجة الاعتراف بالآخر كمثيل للذات على الرغم من الاختلاف، يشكل نقطة تحول جذري في مسيرة الوعي الفردي كما في مسيرة الوعي السياسي الاجتماعي للجماعة.

هذا التحول الذي حققته بعض المجتمعات لم يحصل بين ليلة وضحاها، بل استغرق قروناً من الزمن بكل ما رافقها من صراعات اجتماعية ومراكمة المعارف العلمية وتطبيقاتها التقنية، وكذلك الأمر في مجالات الفكر الفلسفي والاجتماعي، بما في ذلك الفكر الديني، وبصورة خاصة في التنظيم السياسي للمجتمع.

إذا كانت الأنظمة القديمة قد تميزت بتركيز سلطة فردية مطلقة في شخص الفرد الحاكم ممثل الإله على الأرض، ومنه تستمد الشرعية والسيادة، فمقابل ذلك تتميز الأنظمة الحديثة بفصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، واستقلاليتها بعضها عن بعض. هذا واحد من مبادىء النظام الحديث. ومن المبادىء الأساسية للحداثة السياسية مبدأ الاقتراع العام الذي يمارسه الشعب، وهو مصدر السيادة، لانتخاب ممثليه إلى الهيئات التشريعية والتنفيذية. وكنتيجة للانتخابات تتكون أكثرية وأقلية، حكومة ومعارضة (حكومة الظل في بريطانيا) على أساس البرامج السياسية وضمن احترام حقوق الأقلية التي تتحول بدورها إلى أكثرية والأكثرية إلى أقلية في الانتخابات التالية، حتى لا تكون هناك سلطة من دون سلطة مضادة. وأكثر من ذلك فقد برزت إلى حيّز الوجود في المجتمعات الحديثة سلطة رابعة تتفاوت أهميتها من مجتمع إلى آخر، ألا وهي سلطة وسائل الإعلام، أو الرأي العام أو المجتمع المدني. هذا بدون شك اختصار سريع بل سريع جداً. وقد يقتضي الأمر فصولاً مفصلة عن:

الديموقراطية نظرية وتطبيقاً، تاريخاً وحاضراً، خصوصية وعالمية.

لنبق الآن ضمن نطاق موضوعنا المحدود بحدود التداخل الخطير ما بين الديني والسياسي. قلنا إن الحاكم في الأنظمة القديمة يتماهى مع الإله. وعندما نقول «قديمة» هنا تشمل هذه الفئة كل الأنظمة العربية القائمة حالياً بدون استثناء. فالحاكم يعتبر أن الدولة هي شيئه الخاص، ملكه الخاص، وبالتالي كل شأن من شؤون الدولة مسألة شخصية. والعلاقة الشخصية هي التي تفرض الأشخاص القريبين والمقربين على هذا المنصب أو ذاك من المسؤولية. إذن الدولة، وإن كانت جمهورية أو «جماهيرية»، ليست res publica (شأن عام) بل إنها شأن خاص. والحق يقال على لسان الشعب: «لكل دولة رجالها». وكلما تغير «صاحب الدولة» يتغير معه رجالها. وليس محك الكفاءة هي المعيار لاختيار «الرجل المناسب للمكان المناسب». بل المحك الأول والأخير والكفاءة المطلوبة كلها تتلخص في الولاء الشخصي لصاحب الدولة. بينما في الدولة الحديثة تحل محل الأشخاص والعلاقات الشخصية مفاهيم الكفاءة، القانون، المؤسسات (دولة القانون والمؤسسات) وتتوّج هذه المفاهيم بمبدأ سيادة الشعب، مصدر كل السلطات، بواسطة الانتخاب الحر لممثليه ومحاسبتهم عند الضرورة. إذن لا بد من تحقيق ثورة كوبرنيكية في النظام السياسي أولاً وبالتالي على صعيد المجتمع ككل.

الصفحات