كتاب " حوارات في التدخل الديني والسياسي " ، تأليف راتب الحوراني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حوارات في التدخل الديني والسياسي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حوارات في التدخل الديني والسياسي
المعقول والمنقول
إله العقل: دعوة إلى المعرفة بلا حدود! إله الأديان دعوة إلى الطاعة بلا سؤال!
إله العقل هو إله الفلسفة، هو إله الإنسان المنفتح على كل إنسان وعلى الكائن ككل!! إله الأديان عنصري وطائفي وانتقامي وسادي...
إله العقل، علاقته مباشرة مع كل الكائنات لا يحتاج إلى وسيط، فرداً كان أو مؤسسة، فهو جوهر هذا الكون، إنه القلب النابض لكل موجود وليس خارج العالم، بل إنه للعالم بمثابة الروح للجسد. بينما الإله الذي تصوره الأديان يتعالى على مخلوقاته ولا يتنازل لإقامة علاقة مباشرة معها بل يبعث بالوسيط تلو الوسيط، ومن حين لآخر وإذا شاء فيضع حداً لهذه الوساطة ويقفل باب السماء في وجه مخلوقاته بانتظار يوم الحساب حيث البكاء وصرير الأسنان والعذاب الأليم كعقوبات مؤبدة على خطايا ارتكبها بنو آدم قبل أن تلدهم أمهاتهم، عقوبات مكتوبة منذ الأزل في لوح محفوظ.
الإله الحق هو إله العلوم الدقيقة، الإله المطلق الذي يتجلى في القوانين المطلقة التي تنظم الوجود والموجودات بدقة متناهية نقترب منها باستمرار أكثر فأكثر. الإله الحق هو القانون الأشمل في هذا الكون. والإرادة الإلهية التي لا رد لها هي عينها قوانين الطبيعة المطلقة، من قوانين الفيزياء على مستوى الظواهر الفيزيائية، إلى قوانين الكيمياء على المستوى الكيميائي وقوانين البيولوجيا على المستوى البيولوجي.
أمّا في المجتمع الإنساني والتاريخ البشري فوعي الإنسان لذاته كوعي يلعب الدور الحاسم. هذا لا يعني أن الوعي مستقل عن قوانين الطبيعة أو خارج الإرادة الإلهية. فالإله الحق لا يكون مطلقاً حقاً إلّا إذا شمل مفهومه وإرادته الكائنات كل الكائنات بدون استثناء بما في ذلك في قلب شريعة الغاب. ولو بقي حيِّز خارج نطاق الإرادة الإلهية المطلقة مهما كان، فلا يكون هذا الإله مطلقاً حقاً. إن من يعتقد أن الإله له مملكته الخاصة به في عالمه الخاص به، ومخلوقاته في عالم آخر خاص بها، فهو يخطىء كل الخطأ ويشرك كل الشرك، أي ينتقص من مطلقية الإله.
قد يقول قائل: أين حرية الإنسان إذا كانت الإرادة الإلهية تشمل كل الكائنات؟ الرد على هذا السؤال هو أن لا وجود لحريتين في آن معاً. إن هي إلّا حرية واحدة. إنها الحرية الإلهية المتجلية في حرية الإنسان على قدر استعداد كل فرد للاضطلاع بهذه المسؤولية عن مصيره كفرد وكإنسانية جمعاء. فالإنسان هو الطليعة الإلهية لهذه المسيرة الكونية نحو المزيد من الحرية ـ المسؤولية ونحو المزيد من وعي الذات لذاتها في آخرها كما في ذاتها. إذ أن آخر الذات ما هو إلّا الذات نفسها على درجة أو مستوى آخر في المسيرة نفسها.
فالإله الحق هو عقل وعاقل ومعقول ولا يمكن أن يصدر عنه تناقض مع ذاته، لا يصدر عنه أشياء تتناقض مع العقل والمعقول. والإله الحق لا يمكن أن يوصف بصفات لا يقبلها العقل مثل أن يسمح بخرق قوانينه المطلقة في الطبيعة، أو أن يخرقها بنفسه إرضاء لطفل مدلل بحاجة لمعجزة ليصدق أن الشمس تشرق من الشرق وتغيب إلى الغرب!!؟؟
باختصار، الإله الحق هو الكائن المطلق، هو وعي ومعرفة وحرية ومحبة ولا تشوبه شائبة من الصفات البشرية اللاإنسانية. بينما إله الدين وتحديداً إله الأديان الثلاثة المسماة سماوية هو صورة عن إنسان العصر الذي ظهر فيه هذا الدين أو ذاك. يقول سبينوزا إن إله التوراة هو ملك اليهود، والإله الحق لا يتدخل في السياسة لنصرة قوم ضد قوم، فكل الأقوام مخلوقات الله. وطالب سبينوزا، ولعله أول من طالب، بإبعاد رجال الدين عن السياسة لأن تدخلهم في السياسة لا يجلب إلّا الكوارث والحروب. ولذلك استحق هذا الفيلسوف، المولود في عائلة يهودية متزمتة كانت تريد أن تجعل منه رجل دين، استحق الطرد من الجماعة اليهودية التي حاولت اغتياله وفشلت.
الإله الديني هو صورة تقريبية عن الإله الحق، صورة أو رؤية تستند إلى معارف العصر والبيئة التي ظهر فيها هذا الدين، فهي بالتالي تاريخية مشروطة بحدودها التاريخية ونسبية مثل كل رؤية بشرية مشروطة بزمان ومكان، وخاطئة من منظار عصرنا الراهن ومشوهة لأنها تضفي على الإله صفات لا يقبلها أي عقل فكيف بالأحرى العقل العلمي الدقيق المغتني بمعارف واكتشافات وعلوم تطورت خلال خمسة عشر قرناً من الزمن.
هذا لا يمنع أن النصوص الدينية الأصيلة فيها تلخيص لحكمة شعب، بل شعوب، وتصيب كَبِد الحقيقة في بعض ما تقوله، ولها جماليتها الفنية الأدبية كما لها دلالات رمزية تحتمل التأويل باتجاه المعاني الروحية. فالقراءة الصوفية والتأويل الصوفي للنص الديني المؤسس يفتحان النص على النصوص الأخرى الدينية وغير الدينية، وبالتالي على الإنسانية جمعاء. فإذا أردت التدين عليك بالتصوف. ولكن قبل أن تتصوف خذ بنصيحة أبي حامد الغزالي في عهده الصوفي إلى المتصوفة بتهيئة النفس بمعرفة العلوم العقلية قبل مباشرة علوم المكاشفة.
الإله الديني يتجلى في لحظة تاريخية معينة دون غيرها لقوم دون غيرهم من الأقوام وبشخص دون غيره من الأشخاص ثم يجعلهم شعبه المختار... أو خير أمة، وبعد حين يتخلّى عنهم ويوصد أبواب السماء في وجوههم... إلخ فأين العدل في كل هذا؟؟؟
والأحكام التي يصدرها الإله الديني تجعل منه حاكماً طاغية مستبداً وسادياً في التعذيب وانتقامياً، شرائعه أقرب إلى شرائع حمورابي وبابل وسومر، وتتعارض مع أبسط حقوق الإنسان المعترف بها عالمياً في مطلع القرن الحادي والعشرين أو في الربع الثاني من القرن الخامس عشر الهجري.
وحيث نرى أن الإله الحق حي قيوم لا يتعارض مع المسيرة التاريخية التي يخلقها ويقودها عبر النشاطات الإنسانية الإبداعية، نرى الإله الديني وقد انسحب من التاريخ واستقر في صومعته العاجية بالنسبة لبعض عبيده، أما بعضهم الآخر فقد حوّله إلى مومياء محنطة بين الحبر والورق في نوع من عبادة وثنية، عبادة الحرف والصوت بعيداً عن الكلمة والمعنى، بعيداً عن الروح الحي المستمد من قلب الحياة النابض!
أمّا عن الاندهاش أمام نظام الكون والكائنات فهو بداية التساؤل الفلسفي كما يقول أرسطو. بل إن هذا النظام الدقيق في الكون والكائنات هو حجة لصالح الإله العقل وليست لصالح الإله الديني الذي يذهب بعيداً في تدنيس الطبيعة أو في تقديسها.
في الواقع، في الطبيعة لا مجال للحديث عن أية عدالة أو عن غائية معينة. ذلك أن هذه مفاهيم إنسانية لا وجود لها خارج وعي الإنسان، وهي دائماً نسبية تغتني باستمرار من التجربة الإنسانية. فما هي الحكمة في شريعة الغاب في أن يأكل القوي الضعيف؟ وما هي الحكمة من الكوارث الطبيعية التي تزهق الأرواح وتسبب الآلام لملايين من الكائنات الحية؟
ما هي إلّا أفعال القوانين الطبيعية ـ الإلهية لا لمعاقبة إنسان ما أو شعب من الشعوب ولا لمكافأة شيطان ما على بطولات قام بها لإبعاد الناس عن طاعة الإله. وهل من المعقول أن الإله الحق بحاجة ليطلب الطاعة من مخلوقاته؟ هل من وجود لكائن، مهما كان، خارج القوانين الإلهية = الطبيعية؟ وهل من طاعة بعد هذه الطاعة؟ وما حاجة الإله الحق إلى طاعة أكثر من هذه الطاعة؟ أما الإله الديني فيردد أكثر من ثلاثين مرة خلال عشرين سنة: أطيعوني، أطيعوني... وفي كل مرة لا ينسى أن يجيّر هذه الطاعة لصالح وكلائه على الأرض، أولي الأمر من أولهم إلى آخرهم.
وهل من حاجة للإله الحق، وهو المطلق، في أن يؤكد أكثر من مئة مرة أن لا شيء يتم من دون مشيئته؟ وهل من المعقول أن توجد مشيئة أخرى إلى جانب مشيئته المتمثلة بقوانينه المطلقة؟ أمّا الإله الديني فيضع مشيئته في خدمة أولي الأمر من الحكام المتسلطين، أصحاب السلطة المطلقة لتبرير أي فعل يفعلون، وإن كان ذلك فعل الشيء ونقيضه بسبب أو بدون سبب، وفي كل الأحوال بدون حرج والسؤال ممنوع: نفذ ولا تعترض!
الصراع الأبدي بين الطاعة والمعرفة من حكاية آدم في التوراة عندما فضل المعرفة على الطاعة إلى يومنا هذا. الإله الديني يحث على الطاعة ويمنع المعرفة لصالح أولي الأمر لتدعيم سلطة المتسلطين. في حين أن الإله الحق هو معرفة ويحث على المعرفة، وهو وعي ويحث على المزيد من المعرفة والوعي. أما موضوع الطاعة فهو محسوم كما ورد أعلاه. الإله الحق أكبر من أن يحتاج إلى طاعة من كائن ما! والكائنات الأخرى أقل وأصغر من أن تخالف القوانين الطبيعية الإلهية المطلقة. ورد على ذلك أن حرية الإنسان تغتني بمعرفته لهذه القوانين وكيفية التعامل معها.
الإله الحق هذا هو أقرب إلى إله الفلاسفة منه إلى الإله الديني. بالنسبة للفلسفة القديمة، لأرسطو مثلاً، الإله هو عقل يعقل ذاته كعقل، وهو المحرك الأول الذي لا يتحرك ولا يتغير لأنه كامل لا ينقصه شيء وغني عن العالمين. وبالنسبة للفارابي هو عقل يفيض عقلاً في عملية خلق الكائنات الأخرى، وهو واجب الوجود بذاته لا بغيره. بينما الكائنات الأخرى واجبة الوجود بغيرها وبه في نهاية المطاف.
أما الفلسفة الحديثة، فهي تتجه نحو أنسنة الإله أكثر فأكثر وفق التقليد الفلسفي الصوفي «من عرف نفسه عرف ربه». كانت بداية الفلسفة مع سقراط بمقولته الشهيرة: «إعرف نفسك». سبينوزا يساوي بين الطبيعة والإله، والطبيعة هي الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، ويعتبر أن النور الطبيعي هو عين النور الإلهي، هو العقل الإنساني القادر على معرفة القوانين الطبيعية ـ الإلهية، والحب الإلهي في نظر سبينوزا هو معرفة عقلية توحد بين العارف والمعروف في فعل المعرفة حيث السعادة الإنسانية الحق. وعند هيجل المفاهيم مثل الكائن المطلق، الروح المطلق، العقل، الفكرة، المفهوم والله، كلها مفاهيم ذات مضمون واحد: الكائن المطلق المتجلي في كل مفهوم من المفاهيم على كل المستويات في حركة ذهنية لها تاريخيتها المفهومية الخاصة بها وبالموازاة مع تاريخ الفلسفة والتاريخ البشري ككل. والوعي الفلسفي للذات الواعية لذاتها في توحدها مع ذاتها في آخرها كما في ذاتها هو أرقى درجات الوعي التي تتحقق عندها السعادة الإنسانية التي ما بعدها سعادة!!!
الإله الفلسفي: دعوة إلى المعرفة بلا حدود! الإله الديني دعوة إلى الطاعة بلا سؤال!