كتاب " غليان الأفكار - خواطر وأفكار في الجدل السياسي " ، تأليف عبد الجبار عبد الوهاب الجبوري ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب غليان الأفكار - خواطر وأفكار في الجدل السياسي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
غليان الأفكار - خواطر وأفكار في الجدل السياسي
(4)الاستراتيجية الثابتة
وأنا أقرا مذكرات مستر (همفر) الجاسوس البريطاني الذي أوفدته وزارة المستعمرات البريطانية عام 1710 في عداد تسعة جواسيس آخرين ممن تتوافر فيهم الحماسة التجسسية، إلى سائر أجزاء الإمبراطورية البيزنطية، وكانت حصة هذا الجاسوس البلاد العربية (مصر والعراق والحجاز) لغرض جمع المعلومات المتعلقة بعوامل الضعف والقوة لتلك البلدان، ورفعها إلى وزارة المستعمرات لتنفيذ الاستراتيجية التجسسية في منطقة الشرق الأوسط بصورة عامة وشبه الجزيرة العربية بصورة خاصة.
وتبين لي أن تلك الاستراتيجية تقوم على مبادئ وأسس وخطط ثابتة، وذلك من خلال قراءة الأوضاع التي تعرضت لها البلاد العربية عام 1710 وما يتعرض له الوطن العربي الآن عموماً والعراق خصوصاً. فالأهداف والمبادئ والخطط والوسائل والمهمات التي كانت تسير عليها استراتيجية التجسس منذ عدة قرون، لا تختلف عنها في القرن الواحد والعشرين، لأن القاعدة العامة التي تستند إليها وسائل التنفيذ لا تزال هي قاعدة (فرق تسد..فرق تحطم.. تستفد اكثر) هذه القاعدة التي تهدف إلى إبقاء السيطرة على ما تم السيطرة عليه من جهة وضم ما لم يتم السيطرة عليه من جهة اخرى، وذلك باختيار (المهمات) المناطق ذات القوميات المختلفة، والأديان المتعددة، واللغات المتباينة، والمصالح المتقاربة، ثم وضع الخطط اللازمة لتعميق التفرقة والتشجيع على الرشوة والفساد الإداري والمالي والعمل على توسيع نطاق الجهل والفقر والمرض، تماما كما حدث في العراق بعد الاحتلال (إحدى وسائل تنفيذ تلك الاستراتيجية) عام 2003.
وحدث مرة أن ذكر هذا الجاسوس في أحد تقاريره: "أن العرب والمسلمين لو كانوا يعرفون مصالحهم لتركوا الخلافات ووحدوا كلمتهم وقاوموا كل هذا التخلف"، فلم يكن من رئيسه إلا أن نهره قائلا له: "واجبك أن تزيد الشقة لا أن تحاول جمع كلمتهم، فمهمتك هي أن تتعرف إلى النزاعات اللونية والقبلية والإقليمية والقومية والدينية والطائفية وأن تعرف البركان المستعد للانفجار بهم لأننا لا يمكن أن نعيش برفاه، إلّا بزرع الفتن والنزاعات بين الشعوب وتقسيم دولهم إلى حكومات وأقاليم مختلفة والبحث عن عوامل القوة وتبديلها بنقاط الضعف".
وقد رأيت في هذه المذكرات أنها تؤكد على أن البحث عن النقاط التي تضعف الأمة وتمزقها ،كما يريد الاحتلال الآن، يتم عبر البحث عن وسائل الاختلاف بين المذاهب الدينية والاختلاف بين الحكام والشعوب، وبين العلماء والحكومات، وبين القبائل ورؤسائها، وسيطرة الجهل والأمية، وخمول الروح الوطنية وذبول المعرفة وفقدان الوعي، وتشجيع دكتاتورية الحكام واستبدادهم، والعمل على تدهور عناصر الصحة العامة، وفقدان الأمن، واحتقار المرأة، وتشجيع الفوضى في شؤون الإدارة والنظام وتعطيل القوانين، وتدهور الاقتصاد، وانتشار الفقر.
بعد ذلك يتم العمل على تعميق نقاط الضعف في الأمة عن طريق ترسيخ هذه الاختلافات وتوسيعها، والإبقاء على الجهل والفقر والمرض والفوضى والفساد، وفقدان الأمن وإضعاف صلة الشعوب بعقائدها؛ وإغراء المرأة والشباب بشتى الوسائل ليقع الفساد بينهما. ومن يلاحظ اليوم ما يجري على الساحتين الإسلامية والعربية يجد أن سياسة القرون السابقة تتجدد في القرن الواحد والعشرين، وذلك باتباع سياسة (فرق تسد - فرق تحطم - تستفد أكثر) حيث نشطت النزاعات والخلافات الشديدة بين الشعوب وقادتها؛ وإذكاء نار الطائفية والعرقية واثارة النزاعات الدولية واليوم الإقليمية والمحلية، واحياء المذاهب حتى البائدة منها، والتخطيط لتقسيم الدول إلى أكبر عدد ممكن من الحكومات المحلية الصغيرة، ومحاولة جعل المذاهب أديانا مستقلة لا ارتباط فيما بينها ثم اعادة الخلافات بينها، ونشر الفساد وزرع الجواسيس في الدول عن طريق الشركات الوهمية، ومحاربة الأمة العربية، وتوسيع اللغات الأخرى، وتشجيع اللهجات المحلية المتفرعة عن العربية كمحاولة لقطع العرب عن اللغة الفصحى التي هي لغة القرآن والسنة؛ وتمييع الشباب بنات وبنين، واشعال الحروب والثورات الداخلية والحدودية والثأرية بين العرب وغير العرب، وبين المسلمين وغير المسلمين، وحتى بين المسلمين أنفسهم لاشغالهم عن التفكير في مقاومة المحتل ومتابعة الإعمار والبناء والمساهمة في توفير الأمن والأمان للمواطنين كافة.
لنعمل جميعا بما جاء في القرآن الكريم بقوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ)(خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)(مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) (... ونظم أمركم) فلماذا لا تطبق هذه المبادئ الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية، التي تشير إلى الاتحاد والألفة، والأمر بالشورى ،وتقوية الجيش، واحترام المرأة، والأمر بالعمران، والعمل بالنظام....أليست هذه المبادئ وغيرها تهم الأمة؟
فلماذا لا نعمل بها من أجل مقاومة سياسة الاعداء القائمة على قاعدة (فرق تسد... فرق تحطم... تستفد أكثر).