أنت هنا

قراءة كتاب الاسكندرية 2050

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإسكندرية 2050

الاسكندرية 2050

كتاب " الاسكندرية 2050 " ، تأليف صبحي فحماوي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

تتقدم الطائرة بجرأة جسور، فوق منطقة البحيرة، وتقترب من شاطىء أبو قير (1) الرجل الصبّاغ الحسود الحقود الكسول، والذي ليس له صاحب، سوى ذلك الرجل الطيب (أبو صير)، والذي صاحَبَه في رحلة الغربة، والبحث عن لقمة العيش، فساعده هذا الأخير، وعطف عليه، وأطعمه وآواه، ولكن سبحان الله، "خيراً تفعل، شراً تلقى"! فلقد عانى صاحبه أبو صير منه الأمرّات، وليس الأمرّين - على ذمة ألف ليلة وليلة- ولكن جشعه قتله، فأعاد أبو صير جثة رفيقه اللعين (أبو قير) معه، ودفنه بعفونته في هذا المكان. وبعد عمر طويل، مات طيب الذِّكر؛ أبو صير، فدُفن إلى جوار (أبو قير) .
ولكن التاريخ لا يسجل سوى الشر، فلم يحفظ كرم (أبو صير)، بل حفظ لؤم (أبو قير) وبشاعته، فخلّده مُسَمِّياً الشاطىء الجميل باسمه. ولا أحد في الاسكندرية الآن يحتفظ بذكرى حلوة، أو حتى يعرف شيئاً عن الرجل الطيب (أبو صير). معظمهم يحبون اللعين (أبو قير)! حتى أنت أيها الفاني، هل تكره (أبو قير)؟ بالطبع لا، فأنت تحبها، وتتمنى أن تعود، لتتنسم هواءها الشرقي اللطيف، الحامل معه رائحة ثمار مزارع الجوافا الشهية، وتغرق تغرق في بحرها الهادىء الخجول.
شيء عجيب أن الإنسان لا يخلِّد الطيبين! وإذا لم تعجبك تخاريفي هذه، حدّق جيداً في التاريخ، تجد أن أهم الشخصيات التي تم تخليدها هم السفاحون والمدمِّرون، ابتداءً من الشيطان الرجيم، الذي اشتُهر أكثر من كل الملائكة - ويا للمهزلة - فإن أبشع قتَلة التاريخ نالوا جائزة نوبل، بسبب شدّة قتلهم وبطشهم، وأي جائزة منهن؟ إنها جائزة نوبل "للسلام"! والله لو كانت جائزة نوبل للحرب، كأن يخصصوا لهم - مثلاً- جائزة اسمها (جائزة زيوس) إله الحرب، لكان ذلك ممكناً، وأما أن يأخذها أولئك القتلة
"للسلام" فيا سلام!
ها هي شواطىء المعمورة، وقصر المنتزه، تظهر على شاشتك، مشبوكة مع مدينة الإسكندرية في معمار واحد. وقد كانت أيام صباك متباعدة، تفصل بينها أراضٍ زراعية. وعلى الجهة الأخرى بحيرة مريوط، ومنطقة الملاحات، التي كانت رياحها تذرُّ الملح في العيون، فتبدو على شاشتك، وكأن شيئاً لم يكن! قالوا إنهم قد جففوها، وها أنت تراها مزروعة بالمشاريع المعمارية، وملونة بالحدائق، وفرِحة بالمتنزهات، ومتلألئة بأبراجها البلورية الساحرة. وعلى البعد، ترى مساحات واسعة شاسعة من تشوهات سكنية، لبيوت صفيحية صدئة، متراصة مترامية، في نهايات منطقة البحيرة، يبدو أنها لبقايا الفلاحين والعمال، المتآكلين المعجونين بنفايات مدينة العولمة، والذين لفظتهم وأقصتهم حرية رأس المال، وطردتهم إلى صحاري موحشة بعيدة، وكأنك أمام بانوراما معمارية متنافرة الصور!
وأما المدينة المدللة، المضطجعة شبه عارية بكل أبعادها على رمال الشاطىء، وكلك شوق لأن تغمر وجهك في ثناياها، وتهبط فيها، وتشم رائحة رطوبة جسدها المنساب شرقاً، والهارب غرباً، كجناحي طائر رخ كبير، يصل الشرق بالغرب!
تعلن المضيفة الكمبيوترية للطائرة الهيدروجينية، ذات الأجنحة الأربعة، اقتراب هبوطها، وأنت تمد يدك، فتتناول حبة دواء مقوٍّ للأعصاب، وتبتلع حبة إكسير الحياة، بينما الناس يتهيأون للوصول، وأحزمة الأمان تنطلق من عقالها ذاتياً، دون أن تشاورنا، فتُزنِّرنا نحن الركاب. وبالونات الهواء الأَمنيّة تنتفخ، فتحتضن أجسادنا لحمايتها من جميع الجهات. تهبط الطائرة، المجهزة بوسائل الأمان والسلامة العامة، وتدرج بنعومة ويسر على أرض مطار الإسكندرية الدولي، فتشعر بأمان الالتصاق بأمِّنا الأرض. الله ما أجمل هذا المطار الجديد!
كنت قد وصلت أول مرّة إلى الإسكندرية عبر مطار القاهرة، في خريف عام 1966، وعمرك سبعة عشر ربيعاً. أول مرة تركب فيها طائرة، كانت من نوع (دي سي3) بمحركين، تعرج بركابها السابحين المترجرجين فوق وما بين وتحت الغيوم. لم تكن تأبه لهزهزات الطائرة المُقلعة من مطار قلنديا في القدس، ولم تحلم أصلاً بأن تركب طائرة ذات يوم، ولم تسمع من قبل إلا بتلك الطائرات التي كانت عائدة متهالكة من انتصارات الحرب العالمية الثانية، والتي لم يبق لديها شغل، فأهدوها لمن لا يخاف الله، فكانت تتسلى بقصف قوافل الفلسطينيين المهجّرين عام 1948، الحاملين أطفالهم بأسنانهم، وهم هاربون من حمم براكين الاحتلال الغاشم، مثل القطط التي تنقل صغارها بأسنانها من مكان الخطر. وبين روائح القتلى المجندلين، أم لطفل رضيع، أطفأتها طلقة قناص، فأردتها قتيلة على قارعة الطريق، والدم ينزف متخثراً من جيوبها المخردقة، والذباب يدوي على جثتها النازفة، بينما يبقى رضيعها ملتصقاً بها، ويداه متشبثتان بثديها الذي بَرَد، وهو يرضع رضعته الأخيرة التي لم يكملها بعد!
الطائرات المشوهة بدماء الضحايا، تلاعبهم (الاستغمّاية)، ثم تفاجئهم من خلف جبل، وتتمرجل عليهم، فتقصفهم وهم هاربون في الوديان، لتزيد من ذعرهم، وتتعجل التخلص منهم، بإخراجهم من حدود فلسطين الخضراء، إلى الصحاري العربية، ذات الرمال المتحركة! حب في الرياح القارسة!
هذه الطائرة الهيدروجينية المرفهة، المصنوعة من الورق الخفيف المقوى بنفس صلابة المعادن، تحت سر كون ذرة الكربون الموجودة في الحديد الصلب، هي نفس الكربون- بشكل أو بآخر- الموجود في الورق، تختلف عن تلك الطائرة المعدنية الثقيلة المغامرة (دي سي 3) حيث كانت تجلس إلى جوارك يومها سيدة أوروبية تقرأ كتابها، فتشاهدك مرتبكاً وقلقاً. ولدى الوقوف للخروج من تلك الطائرة، تصافحها مودعاً، فتشم على يدك رائحة عطرها النسائي المثير!
"دونت ويرك هارد." تقول لك باسمة: "لا تعمل بمشقة، فإنك مهما تفعل، فلن تكون الرقم واحد في العالم، ولذلك أرح نفسك، ودع القلق، وابدأ الحياة!" لا تعرف لماذا تقول لك هذا! هل لأنها تحبك، فتتمنى لك العمر المديد، والجهد الهادىء، والتمتع بحياة سعيدة، أم لأنها تريد أن تثبط عطاءك، وتبقيك عربياً متخلفاً عن ركب الحضارة الراكض بسرعة جنونية؟ ليتك سمعت كلامها، وأرحت نفسك من شقاء هذا العمر السريع النضوب! ليتك لعبت وفرحت، رغم المُنَغِّصات!
ولكن كيف تفرح وأنت ابن النكبة الفلسطينية الغابرة؟ كيف تفرح وقد ولدت شقياً داخل خيمة تنفث وهج حرارة الصيف اللاهبة، وتنثُّ رذاذ أمطار الشتاء المتلاحقة، تبرعت بها الجهات الرحيمة المتوحشة الحضارية الديمقراطية العظمى؟
كيف تفرح، وقد عشت طفولة مغمسة بالطين اللزج، تنعجن به في ليالي الشتاء القارسة، وأنت تلعب تحت المطر، بقدمين طفلتين لبنيتين حافيتين، فتحاول التخلص من الطين، بسحب رجلك الغارقة بتثاقل من هنا، لتغرسها هناك، فتجرح قدمَك زجاجةٌ مكسورةٌ، مدفونة في طين قارعة الطريق، أو ينغرس مسمار حديد صدىء في لحمها الطري، أو تزرقُّ قدماك المنتفختان كقطعتي جبنة عكاوية بفعل البرد القارس، ومع ذلك تستمران تائهتين في دنيا الآلام، والمخاط الأصفر المنبعج من أنفك المحمر برائحة عفونة مريضة لا يجد غير الذباب يحتويه، فتمسحه بذراعك؟

الصفحات