كتاب " الاسكندرية 2050 " ، تأليف صبحي فحماوي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الاسكندرية 2050
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الاسكندرية 2050
" الكفتة بالطحينة أشهى"، يعترض آخر."فرائحتها ترد الروح، خاصة عندما تخرج ساخنة ناراً من الفرن!" وبعد محاورات ومداولات، يدخلون مطعم الثور، متفقين على أن يكون نصف الصينية بالطحينة، ونصفها الآخر بالبندورة. وأما أنت أيها المُبهم، فلا تجد أمامك سوى أن تلبس طاقية الإخفاء، وتخلع بعيداً عنهم، متسرباً إلى خلف المطاعم والمحلات التجارية، بحركة من يقتفي أثر الرائحة المنبعثة من مراوح تهوية المطابخ، التي تتكاثف على شفراتها شحوم سوداء وهي تنفث إلى الشارع سموم دخانها وأبخرتها، ساحباً رغيفك الذي طوته لك أمك وحشته بين كتبك داخل حقيبتك الكرتونية، وأنت تصل إلى بقايا بائع يقف على ناصية الشارع بصاج فلافله المتقلقل فوق نصب حديدي صدىء، وبزيته القطراني السواد، الذي يغلي منذ نصف قرن، وتشتري ثلاث حبات فلافل بنصف قرش، فتمعسها على الرغيف، ثم تلفُّه هكذا.. وقبل أن تجلس على حافة الرصيف، تلتقط كرتونة تائهة في غبار الشارع، فتضعها تحتك، ليس احتراماً لمؤخرتك العزيزة، بل كيلا يتسخ بنطالك بفضلات الزيت الشحمي المحروق المتساقط على الرصيف، وتقعد تنهشه بشغف الجوع، لا بشراهة اللذّة، متزفراً برائحة مرجل زيت الفلافل الذي يغلي، ويطرطش الأرض!
كيف تفرح وقد كان أبوك يعطيك قرشين كل يوم - مصروفك اليومي- وأنت ذاهب من المخيم إلى المدرسة، لتدفع نصف قرش لحافلة (طبالو) في الذهاب، ونصف قرش في الإياب، إلا أنك كنت توفر القرش، وتذهب مسافة أربعة كيلومترات سيراً على قدميك المتهالكتين، وتعود أربعة كيلومترات كما جئت. وكل ذلك، لتوفر ما تشتري به مجلة العربي أو مجلة الآداب في نهاية الشهر، وتحضر فيلماً لعبد الحليم حافظ، وزبيدة ثروت، فتتعرف على الحب، ولكن مع وقف التنفيذ، فتتعقد من جديد!
تستمع إلى أحاديث زملائك الطلاب المدنيين وهم يتغزلون بالبنات الجميلات، ويحكون قصص الحب والغرام، بينما أنت وحدك تفكر، كم أنت قميء وأنت لاجىء تعيش بلا حب!
تشاهد تلك الطالبة السائرة أمامك تحت زخات مطر غزير، من المخيم إلى مدرستها في طولكرم، وبينما مظلتك السوداء تحميك من المطر، رحت تفكر برحمة تلك المسكينة، السائرة بلا مظلة ولا معطف ولا حتى سترة تحمي جسدها الملفوف بثوبها المدرسي الأخضر! المطر الشديد البرودة كالرصاص يخترق جسدها النحيل، ولكنها مستمرة تتأرجح في سيرها، مثل عسكري منضبط يسير إلى الأمام داخل حقل ألغام، تحت الأوامر الحربية المشددة! أنت لا تعرف حتى اسمها، وبرغم هذا تجدك تقترب منها، وتعرض عليها أن تسير إلى جوارك تحت المظلة، فتجفل الطالبة وتبتعد خائفة، وتستمر في سيرها تحت المطر الغزير! تشعر بعنادها، ولكنك تشفق عليها، فتعطيها مظلتك، بينما تبقى أنت مكشوفاً تحت المطر الشرس. تضحي بنفسك من أجلها، رغم رفضها الاقتراب منك. تشعر أن الفتاة لا ترغب في معاندتك، ولكنها تخاف من المجتمع الذي لا يرحم. فإذا بلّغ أحدهم، وقال: " كانت فلانة تسير مع مشهور في طريق طولكرم،" فإن الدنيا ستقوم ولا تقعد! ذلك لأن الناس القاعدين بلا شغل ولا عمل - وهم كُثر- لا يجدون شيئاً يفعلونه سوى القال والقيل.. و(يا بنت قولي لأختك) فالفضيحة ستدمر البنت. و(غُلب وستيرة، ولا غلب وفضيحة!) تأخذ البنت المظلة، لأنها تكاد تموت من شدة البرد، والماء يتدخل في كل شؤونها الداخلية، فيَسحُّ برداً وصقيعاً على جسدها المغدور، فلا تملك أكثر من أن تشعرها بمودتك ورحمتك. تبحث عن العطف والحب الإنساني الذي لا يمنحك إياه أحد، فتحاول أن تتذوقه، وتتعامل به، وتمنحه إلى قارعة الطريق.
ومثل البحارة الأندلسيين العرب، الذين كانوا يواجهون أخطار عواصف المحيط الأطلسي، بحثاً عن طريق بحرية غربية إلى الهند، ورغم وصولهم إلى شواطىء بلاد المايا، التي صار اسمها سانت أوغستين فيما بعد، وبنائهم قصوراً هناك مثل قصر زريدة، وتشييد مساجد على الشاطىء، فإنهم لم يحققوا اعتراف كتب التاريخ المزوّرة بمغامراتهم الثاقبة في اكتشاف العالم الجديد.
وهكذا أنت، فبالرغم من تجمد خلايا جسدك وأنت تضحي بمظلتك، لم تعترف الطالبة المنقوعة بماء المطر البارد بحبك، فأدركتَ أن ليس للحب مكان في هذه الرياح القارسة!