أنت هنا

قراءة كتاب الاسكندرية 2050

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإسكندرية 2050

الاسكندرية 2050

كتاب " الاسكندرية 2050 " ، تأليف صبحي فحماوي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

كيف تفرح وعذاب العصارات الهاضمة لمعدتك يُسَخِّر أمك زكية، لتدفع لك صحناً فيه حبة بندورة خضراء، مخللة برائحة النشادر، تتوجها طبقة بيضاء من الفطريات المتخصصة بأعمال التخليل، فتأكلها باللهفة والنهم، مع رغيف خبز اقترضَته من جارتكم أم موسى، واعدةً إياها بسداد القرض عندما تخبز؟
كيف تفرح وقد قضيت طفولة كسيرة بائسة، تسير ثابت العزم في درب المّلايات، تحمل المياه بسطلين ثقيلين من بطن الوادي، وتنقلهما بمشقّة، وتحمُّل مسؤولية إلى الجبل، لتروي بهما نباتات بندورة وبصل وباذنجان وملوخية، كان قد زرعها أبوك في أرض مشاع، وسخّر أطفاله للعمل الشاق فيها، كي يطعمكم من جوع، ويحميكم من خوف؟
تسير في "شارع الضباب" وأنت تحمل الماء الثقيل، ليس الماء الثقيل الذي تستخدمه الإمبراطورية الفالتة من عقالها، لصنع قنابل نووية صغيرة، ترميها على قارعة الطريق، كألعاب طفولية، ليلتقطها الأطفال الأشقياء مثلك، فتنفجر في وجوههم، ثم تتهم من لم يمت منهم بالإرهاب، بل كان وزن سطلي مياه الري ثقيلاً، ولا قدرة لديك على حملهما، ولكن مُكرهٌ أنت لا بطل، فتسير بهما وأنت تشعر بكتفيك الطريتين تنخلعان من مفصليهما، وعضلات ذراعيك اللبنيتين تتمزق، فلا تعود تقوى على المقاومة!
كيف تفرح، وقد قضيت بادرة مراهقتك، مرافقاً لحماركم الأبيض المتضخم بحجم البغل، تنقل عليه - بأوامر والدك المشددة - مستلزمات الزراعة، وتحرث الأرض، وتدرس أكوام القمح الذي جمعتموه على البيدر، فتوفرون مؤونة السنة كلها، ولا تعودون تحتاجون أرغفة جارتكم أم موسى، ولا أم عيسى، ولا حتى أم محمد؟
مع أذان الفجر، يوقظك أبوك بالقوة، فتقوم وكأنك وحيد في هذه الدنيا، آدم بلا حواء. هل كان آدم مراهقاً عندما نزل إلى الأرض برفقة حواء، أم كان رجلاً بالغاً عاقلاً، عارفاً ما له، وما عليه؟ وهل صحيح أن آدم وحواء كانا قد نزلا إلى الأرض بمركبة فضائية من تلك الأطباق الطائرة التي يتحدثون عنها، قادمين من كوكب آخر، ونظراً لخلل فني في مركبتهما، علقا على الأرض، فلم يستطيعا العودة إلى كوكبهما البعيد، فقعدا على هذا الكوكب، ملومَين محسورَين، وبقي أحفادهما حتى يومنا هذا ينفخون، مُعقّدين، مكتئبين، مكفهرّي الوجوه، ولا يشعرون بالسعادة مهما امتلكوا، بسبب غربتهم عن وطنهم الأم في المكان البعيد؟
تقوم من نومك، وكأنك آدم القادم من كوكب بعيد! وهل فلسطين كوكب آخر بعيد عن الأرض، وأنت قادم منها وحيداً؟ وهل تحطم طبقك الطائر هنا، فيعاملونك يا غريب الدار...؟
تقوم فجراً باتجاه الزريبة، فتشاهد جحشك يبول على روثه الذي تتدخل روائحه النشادرية المتخمرة من أنفك إلى تشعبات رئتيك وأنت تُصبِّح عليه، ثم تخرج القوي الأمين، وترافقه إلى طريق الأشغال الشاقة! ولأنك بلا رفيق، تجدك تتحدث معه، وتشكو له همومك، فينظر إليك متفهماً موقفك، وتضحك معه ساخراً من هذه الحياة الخرافة المجنونة، فلا تجد سواه متضامناً معك ومع الشعب الفلسطيني! تمسك بلجامه، وتسير معه بنفس مهزومة، بكل ثقة وثبات! هل سبق وأن شعرت بنفس مهزومة تسير بكل ثقة وثبات؟
تسير برفقة جحشك العزيز، بصفته الرفيق الأكبر، تحدثه، تسري له عما في قلبك من محبة مكبوتة. يعطس في وجهك، (أبررررر!) فيرشُّك برذاذ لعابه الرغوي، ورائحة التبن المخمّر بين شدقيه. لو كان إنساناً، لغضبت وزمجرت ثائراً عليه، ولكن رذاذه نظيف! على الأقل، هو لا يلوِّث فمه باستغابة الناس وأكل لحومهم، ولذلك فعطسته، عطسة ابن حلال! يحدثك عن همومه، فتغضب لشدة تعبه، ولكنك تتقاتل معه إذا حاد عن الطريق، ثم تفرح معه إذا شاهد حمارة جميلة مارّة، فعاد خلفها من حيث أتى، ليعبِّر لها عن حبه وهيامه. وإذا شاهدك والدك تتركه ينفلت من عقاله، فإنه يجحظك، فتمسكه من لجامه، وتثنيه عن الغي والطيش، وتسأله مبتسماً: " ألا تستحي على دمك، وأنت حمار كبير قد البغل؟"
لم تفهم يومها لماذا كنت تفرح للحب، حتى لو كان بين حمار وأتان، ربما لأنك لا تحس به بين الناس. فالناس لا يحبون بعضهم بعضاً. إنهم يفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء، وأما حمارك الطيب هذا، فلا يسفك الدماء، بل يحب أتانه! كنت تراقبه وهو يكسر الحواجز، وكأنه في سباق فروسية القفز على الحواجز، كي يصل إلى خدرها، فيعانقها بلهفة، ويحكَّ رقبته برقبتها وهي تبتسم، ويستمتع للحظات وهو يسعدها، وهي تسترخي أمامه تتشدق. من قال إن الحمار لا يعرف الحب فهو لا...
منذ ذلك اليوم تصلّب عودك على الخوف من درب البنات. "درب البنات شوك!" تقول لك جدتك أنيسة. وأما أمك زكية، فلم تكن تتكلم أو تنطق شيئاً، (صمٌّ بكمٌ، لا يفقهون، ولا يعلمون!) بلى لقد كانت زكيّة ذكيّة، وتفهم الحب والحياة، شعرت بذلك عندما قالت لك ذات يوم مثلاً شعبياً بجهالة. لم يسمعها والدك آنذاك، لأنه لو سمعها، لشطبها من سجلات الدنيا، واعتبرها في خبر كان! يومها قالت:
"اللي بدّه يبوسني، بيعرف راس خدِّي وين." ففهمت منها أنها كانت تعرف الحب والبوس. ولكنها لم تكن تعرف أن القُبلة قد انتقلت من رأس الخد، إلى الشفتين، وإلى مناطق أخرى غير مصرح بذكرها! كانت لديها معرفة، مع وقف الإفتاء، فلقد حددوا لنا سيدنا المفتي رسمياً، ولا يفتي إلا المفتي، الذي يُفَتتنا بفت فتاواه!
والدتك زكية لا تتدخل لأنها (لا تأكل الفَتّ، قد اللّط!) وأبوك يضربها (عالباردة والساخنة!) فصارت- تحت التعليمات المشددة- مبرمجة تلقائياً؛ تصحو من الأذان، فتعجن العجين، وتطفىء السراج المُدَخِّن، وتقتصد في كاز السراج، رغم أن سعر النفط لم يكن غالياً في تلك الأيام. كان برميل النفط بخمسين سنتاً. الله أكبر! البرميل الكبير بنصف دولار؟ صحيح أن تجار نفطنا العرب "مُرّون" في التجارة، وطالعون لأجدادهم، تجار ألف ليلة وليلة، الذين كانوا يركبون البحار، ويصارعون الجان، ويسخِّرون الرُّخّ في السماء، وبالرغم من تكرُّر ضياعهم، وتقطُّع المحيطات بهم، إلا أنهم يعودون كاسبين غانمين الجواهر والألماس من قيعان البحار. يعودون وقد نشروا إسلامنا بالتجارة والمحبة في بلاد الشرق والغرب، وليس بالحرب القذرة التي تخوضها الإمبراطورية الفالتة من عقالها ضد إسلامنا. وبصدقهم وأمانتهم وتقاهم، اعتنق الأندونيسيون والماليزيون الإسلام، الذي يحض على إطعام المسكين، والذي يقول- بعكس مقولة الرأسمالية المتوحشة - إن المُلك لله. شتان ما بينهم وبين تجار نفطنا العرب "العظماء"، الذين يبيعونه ويبيعوننا بالرخيص، وأحياناً تفتح أنابيب نفطنا العظمى، فتعبىء لهم قلوبهم ببحور من النفط الأسود مجاناً، دون عدادات، لعلهم يطفحون! رجال "غانمون"! ليس هذا ما قالته إذاعة صوت العرب من القاهرة. ولكنها قالت: " نفط العرب للعرب، يا بنشعله لهب!" ثم قالت: "ارفعوا رؤوسكم يا عرب". فلم يرفع أحد رأسه! حتى أنت أيها (اللاجىء) المحاصر من جميع الجهات، لم ترفع رأسك أمام زملائك الطلاب القرويين "الوطنيين" في مدرسة الفاضلية الثانوية في طولكرم، وهم يتوجهون ليتغدوا في مطعم الثور، المُطل على ساحة سفريات المدينة. " اليوم سنأكل صينية لحم كفتة بالبندورة". يقول أحدهم."آه ما أشهى رائحتها بالبندورة!"

الصفحات