أنت هنا

قراءة كتاب الاسكندرية 2050

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإسكندرية 2050

الاسكندرية 2050

كتاب " الاسكندرية 2050 " ، تأليف صبحي فحماوي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

يضع الحمال الحقيبة على الرف، فيشعرك بأن مهمته قد انتهت، فتنقده القروش الخمسة. تفضل. فيشكر الله ويخرج.
تشعر وسط تلك الجموع المتراصة في المقطورة أن لا مكان لك، فلا ممر فارغاً لتمُرّ منه، ولا مقعد فارغاً لتقعد عليه، أو حتى مكاناً لتقف فيه! وهؤلاء النساء الفلاّحات يضعن سلالهن الضخمة المملوءة بحاجياتهن، والتي خيطت فوهاتها بقطع قماش بيضاء وسوداء وخيش رمادي. وهذا الرجل الفلاح بثوبه الرمادي الواسع يُقعِدُ بطنَه المنتفخَ بين رجليه، ويجلس ساهماً، وكأنه قد أفطر شوالاًً من الفول قبل ركوب القطار، ورأسه يميل ذات اليمين، وفلاح آخر يميل برأسه ذات اليسار، وتلك السمينة بحجم بقرة لحوم (في عين العدوِّين!) تربط سيقان إوزاتها البيض الثلاث، وتضمهن معاً، وتضعهن فوق سلتها الضخمة الطافحة في الممر، بينما الحائرات البيض يتلفّتن بعيونهن الزرق النيلية الجميلة بقلق وارتباك ذات اليمين وذات اليسار، متفرجات على هذا العنبر السراديبي الطويل، المكتظ بأمتعته وبساكنيه! تلاحظ أن الأكياس والحقائب والأمتعة أكثر انتفاخاً من الركاب. وبعد أن يتحرّك القطار، تكتشف متاعب استرخاص الركوبة.
تشاهد أمامك رجلاً نحيل الجسم، يقعد محدودب الظهر، وذقنه يلامس ركبتيه، مثل موسى الكبّاس الذي ينغلق على نفسه، يُسبِّح بيده اليمنى بمسبحة طويلة تتدلى لترتطم بحذائه، بينما يده اليسرى تحمل مذياعاً نقالاً، وتقربه من أذنه كي يسمع صوت محمد عبد الوهاب - برغم تشابك أصوات المسافرين مع الأصوات المنبعثة من القطار نفسه - وهو يغني: (يا وابور قول لي رايح على فين.. يا وابور قول لي وسافرت منين.. يا وابور قول لي.. ياوابوووور قول لي...) وفي المقعد نفسه يتكوم أطفاله الخمسة فوقه وفوق زوجته القاعدة إلى جوار الأكياس، لابسة ثوباً أسود فضفاضاً، ولحمها يطفح داخل ثوبها الأسود الكبير، ويفيض على أمتعتهم، التي تتكوم حولهم، فتُغلِق ممر العربة.
وإلى جوارك يقف شاب من جيلك. تسأله فيقول لك ساخراً: "إنه قطار الإكسبرس السريع!" وعندما يعرف أنك غريب بلاد، يكمل حديثه الساخر: " هذا القطار كان سريعاً في عهد الدولة العثمانية، عليها رحمة الله، وعندما ماتت الدولة، اكتأب القطار، فصار يقطع الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية في حوالي خمس، قول ست ساعات.. وهو يتوقف في كل المحطات، ما عدا المحطة التي تنوي الوصول إليها!" يضحكك أسلوبه الساخر في الحديث، فيشعر بإعجابك به، فيواصل قوله: "إنما هناك قطار حديث اسمه المجري. آه لو ركبت فيه يا جدع، لأوصلك في ساعتين!"
تكتشف داخل ذلك التزاحم الخانق- والذي هو واجهة من واجهات يوم الحشر والنشر- أن الناس طيبون، وتتسع صدورهم بعضهم لبعض. ولكن ما يمتعك حقيقة هو منظر السهول الواسعة (جنّات عا مَدِّ النظر، ما بينشبع منها نظر!)، مزارع خضراء، تنطلق منها أشجار نخيل باسقة بين حقول الذرة والقمح والبرسيم والفول وقصب السكر، تشبه مآذن مساجد لا نهائية في المدى الرحب! وأنت لم تشاهد نخيل مزارع من قبل إلا في الأفلام المصرية غير الملونة، وها أنت تشاهده ملوناً وعلى الطبيعة! إنه سحر مصر الخضراء، التي صحّروها لاحقاً!
تنتبه إلى أن الفنان محمد عبد الوهاب، وبعد أن انتهى من أغنيته السابقة قد عاد إلى أذن الرجل - الموسى الكبّاس- بأغنية (ما احلاها عيشة الفلاح، متهني وقلبه مرتاح!) ولكن صديقك المصري محمد محمد محمد، الذي ستسكن معه في الإسكندرية فيما بعد، سيقول لك: "غنى عبد الوهاب هذه الأغنية من الزمالك، ولم يعش مع الفلاح، فيشاهد كيف أن البعوض - جيش الإقطاعي- يمتص دمه، وكيف تثقب البلهارسيا شرايينه، بمخرز الخولي، وكيف أنه محروم من كل شيء، ما عدا الموت!"
لا يبتعد القطار كثيراً من القاهرة، حتى يتوقف في محطة بنها، فينزل ناس، وتنزل أمتعة، ويصعد ناس، وتصعد أمتعة، وتحصل عملية إفراغ وإحلال متبادلة. ويصعد إلى القطار بائعون متجولون من أهل المحطة، وأحدهم يحمل على كتفه سلة، ويصيح وهو ينقل رجليه بخفّة وجرأة بين كتل الأكياس المتضخمة بطونها، فتصطدم سلته بلحوم النساء المندلقة داخل أثوابها الكحلية والسوداء، فيذود الرجالُ المدافعون عن حدود نسائهم بحماسة وشهامة. "سميط وبيض وجبنة رومي." ينادي بأعلى صوته المتشابك مع أصوات مجتمع القطار: "بيض وسميط." ويتبعه شاب بائع متجول آخر، يحمل على كتفه سطلاً مملوءاً بالماء، ترتفع من فوهته زجاجات ملونة.
"كازوز بارد." يندفع وهو يصيح بأعلى صوته: "كازوز بارد كازوز بارد." طبعاً لا هو كازوز، ولا هو بارد! وعندما يمرّ بك، يمسح قاع سطله المُطيّن بكتف سترة بدلتك اليتيمة، التي كنتَ مغروراً بلبسها داخل العربة، ولكن هذا السطل الذي مسح بك الأرض، جعلك تقف مثل الذي عملها، ولم يمسح مؤخرته..!
يشاهد الشاب الذي يقف أمامك تحرُّش طين السطل بكتفك، ويتأثر بمنظره اللزج، فيضحك وهو ينظر إلى خيبتك ويقول لك: "ما كنت يا فندي طلعت على الأقل في الدرجة الثانية، هناك يكون لك رقم مقعد، والمقامات محفوظة!" الآن تفهم أنك قد ركبت في مقطورة الدرجة الثالثة، وأن الناس هنا متعودون بعضهم على بعض، وقلوبهم مسامحة وكريمة، وأما أنت فالبدلة اليتيمة التي ستدخل بها الجامعة، وتقابل بها وجه ربنا..! إنها مصيبة كبرى! ولكنك مستعد في هذه الرحلة لأسوأ الأمور، كما قال لك والدك رحمه الله: "كن حذراً يا ولدي لكل شيء. ولا تغضب إذا ما حصل لك مكروه، لا سمح الله. والرسول الكريم كان يرفع شعاره الدائم (لا تغضب)." ولهذا فلا تغضب، بل تتابع الرحلة واقفاً، تتفرج على الخضرة، وعلى نوافير النخيل المعلقة في السماء، وبحر النيل الرحب الصدر، الذي لم تشاهد مثله في حياتك؛ فهذه الألوان، من الخضرة والمتسلقات الجهنمية الحمراء، والنيل الذي يظهر أزرق حيناً، ورمادياً شاحباً أحياناً، وأجرب بقاذوراته ورممه أحياناً، ومطرزاً بجواميسه التي تدور حول سواقيها، وبيوت الطين المغمورة في المزارع، وأفران فلاحاتها التي تلهب النار الحمراء المتصاعد دخانها فتشوي خبزهن، وأسراب من الصبايا الفلاحات يجمعن القطن من حقوله، وعربة كارّة يجرها حمار ينوء بحمل البرسيم المتراكم خلفه.
وبعكس مآذن النخيل المنطلقة باتجاه السماء، تهبط الشمس باحثة لها عن عش تنام فيه بين حقول الذرة! ترقب الشمسَ الغروبيةَ البرتقاليةَ المحمرّةَ وهي تسابق القطار... تنطلق بموازاته... تتخلف عن ركبه. تختفي خلف ذيله التمساحي الطويل. تحاول أن تسبق الفضاء الرحب. وعندما تصطدم "الذهبية البرتقالية" المتلألئة بجذوع النخيل، تخاف عليها من أن تنفلق وتخر مغشياً عليها!
الزحمة المتشابكة داخل المقطورة تجعل بعض الشباب يقعدون على الرفوف الداخلية العلوية الشبكية المعدنية، والتي صممت لوضع الحقائب اليدوية عليها. يصير المسافرون هم الأمتعة الممددة على الرفوف. وتشاهد رجلاً يراقب قرده صغير الحجم، والذي بغمزة عين يقفز بخفّة، فيجلس بأدب بين الشباب الجالسين على الرف، وهو يضع إصبعه في فمه باسماً، بينما عيناه العسليتان تتحركان في محجريهما، يمنة ويسرة، تراقبان الغادي والقادم، والفرح يطل منهما، لحصوله على مقعد مجاني في العالي.
تشعر بألم في ساقيك المنفرجتين بسبب وجود قفة بينهما، فتزحزحهما بين الأمتعة، وتراقب الشابين الجالسين على الرف، وهما يدلدلان أرجلهما فوق رؤوس ركاب المقطورة، فيصيح بهم رجل قاعد تحت رحمة أحذيتهم الثقيلة: "مش تحترموا الناس القاعدين تحت جزمكم الثقيلة!" وتضيف امرأة يبدو أنها خائفة على طفلها النائم في حضنها: "لو وقعت جزمة على رأس طفلي، حيموت!" ويقول آخر: "دا والله حتى عيب كده!" ويتشجع رابع فيرفع وجهه نحوهما صائحاً: " يا شباب انتوا أكيد من عيلة محترمة ومتربيين عالأصول، وده مش أصول إنِّ جزمكم تتحط فوق رؤوسنا! على الأقل اقلعوها وشيلوها من فوق دماغاتنا!"
وبعد عدة استنكارات واستهجانات، يخلع الشابان أحذيتهما الغليظة، ويضعانها إلى جوارهما على الرف، فتعلن جراباتهما البيضاء عن نفسها، وتمد أعناقها، وهي مسودّة مطينة بالعفونة الملتصقة بها، وتطل أصابع أرجلهم من الجرابات المهترئة، فيروحان يهوِّيان أصابعها الملتصقة بمعجون العفونة اللاصقة الرمادي الرطوبة، ويبعدان الأصابع بعضها عن بعض بهدف التنفس، فتفوح رائحة كريهة، تقتل أنوف الركاب القابعين تحت رحمة سكان الرف العلوي. ويصحو رجل عجوز كان نائماً على كيس أمتعته صائحاً فيهم: "ارحمونا من الريحة اللي خنقتنا دي!" فتصحو على صوته امرأته التي كانت تنام على زنبيل مملوء بأشياء مغطاة بقطعة قماش مخيط، وهي تقول: "صحيح، أيه الريحة العفنة دي!"
"يا عمي البسوا جزمكم، ودلدلوها فوق رؤوسنا" ينفجر آخر بقوله،" لو تقع جزمكم على رؤوسنا، أرحم من الريحة اللي موتتنا دي!"
وهنا يتنطع أحد الشابين؛ ساكنيّ الرف العلوي قائلاً: "هلكتونا بحكاية الرجلين دي؛ إقلعوا، لأ، إلبسوا! طب إقلعوا! لأ إلبسوا. إرسوا لكم على بر، في قضية الأرجل دي. نلبس ولا نقلع؟" فيقول لهما الشاب الفرائحي، الذي يقف إلى جوارك مراقباً الحدث كالآخرين: "إيه رأيكم تقطعوا رجليكوا، وترموهم برّة القطر، فنرتاح من ريحتهم العفنة؟ وعلى الأقل يمكن تستفيد منهم القطط اللي هناك، بدل ما انتوا قارفين بيهم مشوارنا ده!" فيجيبه أحد العلويين مدافعاً: "لا والله فالح يا ابو شرابات حرير في حرير! وعفن رجليك، تقولش مسك!"

الصفحات