أنت هنا

قراءة كتاب الاسكندرية 2050

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإسكندرية 2050

الاسكندرية 2050

كتاب " الاسكندرية 2050 " ، تأليف صبحي فحماوي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

أفعى أم جرس!

هل ينجح جيل كنعان الأخضر في ليِّ أذرعة شرور الإنسان ضد أخيه الإنسان؟ هل أنت في حلم، أم في علم محقق؟
تقارن هذا المطار السكندري المدهش الذي تنزل فيه مع مطار القاهرة الذي نزلت فيه أول مرّة، وقرأت يومها ما هو مكتوب فوق مدخله: "ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ." فارتحت لما تقرأ. وبعد صف طويل أمام حاجز الأمن، ختمت جواز سفرك، وحملت حقيبة أغراضك البنية الكرتونية، ذات الزوايا المعدنية، فلم تعرف طريق الخروج من المطار، ولا مكان ركوب سيارة أجرة، تقلك إلى مدينة القاهرة. خرجت يومها تائهاً في الزحام، فوجَّهك أحد سائقي الأجرة لتركب سيارته الصغيرة السوداء، المكوّرة مثل سلحفاة. يدير السائق مفتاح محركها، فلا يشتغل، فيخرج منها، ويحاول دفعها بكل ما أوتي من قوة ضعيفة، فلا تتنحنح السيارة! يلاحظ شرطي استماتتها في المحطة، فيتكرّم بدفع العربة، بينما نحن في داخلها، فيشتغل محركها! ما هذا؟ شرطي، ويخدمك بأن يدفع لك سيارتك! أنت متعود على مقولة: " الشرطة ورطة! " ولكن هذا الشرطي في خدمة الشعب! تخجل من الرجل الكريم، ولا تعرف بماذا تجازيه! كنت قد سمعت أن التفاح الشامي عزيز في مصر المشهورة بالمانجا والجوافة والبرتقال الشهي. فتخرج يدك من شباك الصرصار الأسود، ماداً نحوه تفاحة حمراء. يفرح الشرطي بها، ويشم رائحتها العطرية فيشكرك، وتمضي بك السيارة إلى فندق لا تذكر اسمه! قد يكون اسمه فندق القاهرة. وقبل أن تهمد في غرفتك المنعشة، تفتح حقيبة أغراضك، فإذا بها ليست لك، إنها من الخارج الحقيبة الكرتونية البُنِّية نفسها، المدعمة بزوايا معدنية، والملاحظ أن معظم حقائب الركاب هي من هذا النوع. يبدو أنه لا أحد معك في الطائرة يستخدم حقيبة سامسونايت أو سامسونغ.. وحتى العم سام نفسه كان محجوباً عن مصر في تلك الأيام! ولكن الحقيبة الكرتونية ليست نفسها من الداخل، فملابسك وأغراضك غير هذه الأغراض! ماذا تفعل تجاه هذه الغلطة؟ ليس أمامك سوى أن تهاتف استعلامات الفندق. ترفع السماعة بحذر، وتعرض مشكلتك على موظف الاستقبال، فيقول لك: "سأوصلك باستعلامات المطار."
تتصل بموظف حقائب المطار، فيتفهم مشكلتك، ويعدك بالحل السريع. وما هي سوى ساعة وبعض ساعة، إلا وصاحب الحقيبة المبدّلة يحضر حقيبتك، ويأخذ حقيبته، والأمور تسير ببساطة لم تتوقعها.
تطل من شرفة غرفتك الفندقية العالية، فتدهش لهذه العمارات القاهرية المتفاوتة الأطوال والأحجام. تراقب هذه الحشود من المشاة، التي لم تكن تتوقع غزارتها. ولد في السابعة عشرة من العمر، ينتقل من المخيم إلى القاهرة مرّة واحدة! من سراج كاز يضنُّ بالنور حتى على من حوله، ومن ليل مخيف ليس فيه ضوء قمر.. تمد يدك في ليل المخيم البهيم، فلا تراها! لم تنقطع خطوط الشبكة الكهربائية، ولم يحصل عطل في المولِّد كي تسوَدّ الدنيا في وجوهنا، فلا توجد أصلاً في المخيم شبكة كهرباء كي تُقطع! طرقات ترابية متعرجة ضيقة بين صخور معتمة! لا يعترضك وأنت تسير فيها سوى هذه الأفعى أم قرون، أو تلك الأفعى أم جرس، فتكهربك وهي تنساب بدل التيار الكهربائي، مطارِدةً فأراً يركض مرعوباً، فيختفيان تحت أجمة نباتات صبارات شوكية عالية، تُسوِّر بيت كل لاجىء! حالة شوكية للدفاع عن النفس!
لا يملك أي لاجىء سيارة، كي يطالب بشق طريق، أو مجرد تجريف طريق دون تعبيدها، ليصل بها إلى بيته، فالطرقات الصخرية الضيقة داخل المخيم التِفافِية، ومنذ ذلك التاريخ والطرقات الالتفافية تتطور، وتنتشر وتتضخم أوداجها، وتتَلَيّف في ربوع الوطن، مثل مرض تليُّف الكبد، فتصير فلسطين كلها مصابة بمرض تليُّف الطرقات الالتفافية، تعربد فيها الأفاعي أمهات قرون، والأفاعي أمهات أجراس! (ولَفّتّك، ما لَفّتّك. أطعمتك خرا ستّك. ستّك البطباطة. قعدت عالبلاطة!) لماذا تضحك عليّ وأنا أُحتَضَر؟ هكذا كانوا يغنون لنا نحن اللاجئين، لنفرح بطفولتنا!
تنتقل من تلك العتمة الالتفافية مباشرة إلى كهرباء تقلب الليل نهاراً، ونيل مثل البحر، ومدينة غير عادية، إنها قاهرة صوت العرب!
كان أبي يجمعنا تحت اللحاف، ويفتح المذياع بخفوت على صوت العرب من القاهرة، كي لا يسمعنا أحد، فنسمع خطب جمال عبد الناصر سراً، ونبتهج بانتصاراته في بورسعيد! فينتشي أبي صائحاً:
"يا إلهي، مصر تهزم عدوان بريطانيا العظمى، ومعها فرنسا وإسرائيل! وأخيراً جاء دورنا في تحقيق الانتصارات بعد عهود من النكسات المتتالية!"
أبي المحزون دائماً بكآبة النكبة، كان يفرح ويبتهج وهو يشاهد صور القائد العربي العملاق في مجلة المصور ومجلة آخر ساعة، المعروضة خارج مكتبة السفاريني في طولكرم، فنتصفحها ولا نشتريها، نظراً لعدم توافر السيولة النقدية، وهو الذي لا يقرأ، يُملِّي نظره من الزعيم الذي يقف بعظمة وكبرياء وفخامة، مثل باقي قادة خلق الله، إلى جوار خروتشوف، فوق جسم السد العالي، ويقول لك: " انظر! انظر! أليس لنا يوم نفرح فيه، ونشعر أن لنا قائداً يرفع رأسنا، وهو يقف كتفاً لكتف مع قادة العالم، وليس....!"
كنتَ تفرح بعبد الحليم حافظ وهو يغني:
"قلنا حنبني، وآدي احنا بنينا السد العالي، ويا استعمار بنيناه بإدينا، السد العالي!"
وبالنسبة إليك شخصياً، فلولا سماح عبد الناصر للطلبة العرب بالدراسة في مصر، دون تمييز عن إخوانهم الطلبة المصريين، لما استطعت أيها اللاجىء دخول الجامعات من أصلها، فعندما درّست ابنك برهان فيما بعد في ألمانيا، دفعت عليه الشيء الفلاني، حتى تخَرّج، وصار مهندس وراثة، وبذكاء منهم، شغّلوه معهم هناك، كي يحرموه من العودة وخدمة بلده. ولكن أي بلد يخدم؟ فأين هي مختبرات الهندسة الوراثية في كل أصقاع الوطن العربي الكبير، من المحيــــــط الـ...إلى الخــــلــــيــــــج الـ...؟! فمثل هذا الخرِّيج الضالّ عند العرب، قد يشغلونه في أحسن الأحوال، معلم مدرسة صف خامس ابتدائي في قرية النفوخ الغربي. وأين تقع النفوخ الغربي؟ فأنت لا تعرف الشرقي ولا الغربي! (رُح يا شيخ!)

الصفحات