كتاب " الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله " ، تأليف د. يوسف نصر الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله
أنواع الدعاية السياسية
ليست الدعاية- بلحاظ طبيعة مصادرها وحساسية أو شفافية علاقة الأخيرة بها- من لون واحد، أو من نوع واحد؛ بل يتنازعها في هذا السياق أنواع ثلاثة، هي:
أ ـ الدعاية البيضاء (White Propaganda): وهي الدعاية السافرة، البنّاءة، ذات الحجة المنطقية في تسويق وتظهير نفسها، وذات المصدر المعروف والجلي والواضح والبيّن والمكشوف والعلني، الذي يشفّ عن نفسه، ويتداعى سريعاً حين طلبه، ولا يحتاج الإفصاح عن هويته، أو تحديد منطلقاته ودوافعه، أو تظهير ما يباطنه من خلفيات، إلى عمليات تحرّ أو بحث أو تكهن أو تخمين. وعادة ما يجد سبيله في التعبير عن ذاته عبر وسائط الإعلام المتاحة، كالإذاعات ووكالات الأنباء والصحف والتصريحات ذات الطابع الرسمي، وكثيراً ما يحمل اسم الجهة أو الدولة التي توجّهه. ولذلك يُطلق على هذا النوع من الدعاية تسمية: الدعاية الرسمية أو الدعاية الصريحة. ما يعني أنّ الدعاية البيضاء ـ فضلاً عن حقيقة وعي المستهدفين من الناس ببالغ تأثيراتها ومفاعيلها فيهم ـ هي من طبيعة شافة، حيث يُفصح رجل الدعاية عن نفسه، ويوضح مقاصده وأغراضه ومراده ومراميه، على نحو تشخص معه الأبصار إلى رؤيته، وإلى إدراكه ومعرفته.
ب ـ الدعاية الرمادية (Gray propaganda): وهي الدعاية الواضحة والبيّنة المصدر أيضاً، وهي كسابقتها لا تخشى من انفضاح وانكشاف أمر مصادرها الحقيقية، إلا أنّها ـ على خلاف الدعاية البيضاء ـ هي من طبيعة مواربة ومراوغة وخادعة؛ تتلطى خلف أهداف معينة، وتستتر وراء عناوين محدّدة، وتخفي اتجاهاتها، وتميّع منطلقاتها، ولا تفصح عن حقيقة نواياها وأهدافها، كما عن مضمرات أعمالها، بل تعمل بطرائق ملتوية، وتدعو إلى ما تريد بنحو غير مباشر. مثلها كمثل نصّ أدبي مخاتل؛ ظاهره عمل روائي أو قصصي أو مسرحي. أمّا ما يباطنه؛ فهو دعوة إلى اعتناق مذهب سياسي معين، أو إلى اجتذاب المريدين والأنصار للتحلق من حوله.
ج- الدعاية السوداء (Black Propaganda): وهي الدعاية المقنّعة ذات المصدر السري، غير البيّن، وغير الواضح، والمجهول الهوية والنسب والانتماء. وهي من طبيعة قاتمة، كالحة، مستترة، خفية الغرض، تتصف بالتكتم الشديد على أصولها ومنطلقاتها وأهدافها، وعلى ظروف عملها واشتغالها، كما تتصف بعدم البوح والإعلان والإشهار، إذ إنّها تؤثر عدم الكشف عن مصدرها، وتسعى إلى التنكّر والتلطي والتخفّي، وتقوم على نشاط المخابرات والمافيات والعصابات والعملاء السريّين، وتستخدم الحيل والكذب والخداع والطرائق الملتوية أسلوباً لنشر أخبارها وتسويقها.
وتعكف الدعاية السوداء على رفع اللافتات والشعارات البرّاقة الجاذبة، وعلى إطلاق الأطروحات الرنانة كالديمقراطية والليبرالية والعدالة والمساواة... وعلى استخدام تقنية التكرار والإعادة بغية ترسيخ موضوع الدعاية في أذهان جمهرة المتلقين- المستهدفين، ودفعهم إلى الإيمان بها كحقيقة غير قابلة للشكّ أو الارتياب، كما تعمل على افتعال صنوف التهويل وأشكال المبالغات والتضخيم والنفخ، وعلى انتقاء جانب من الحقائق ذلك الذي يخدم غرضها ويحقق غايتها المرجوّة دون أن يصار إلى التعرّض لباقي الحقائق، بل على خلاف هذا الأمر تلجأ الدعاية السوداء إلى عمليات اختلاق وتزييف وتشويه وتغيير وتحريف للحقائق والوقائع والمعطيات والأرقام بما يتلاءم مع أهدافها ويحقق لها مصالحها ومقاصدها. ومن أمثلتها ومصاديقها البيّنة الوسائط الإعلامية المجهولة الانتماء: كالصحف والإذاعات والمرئيّات، وكذلك المنشورات السرية، والمطبوعات والوثائق المزيّفة، والبيانات والرسائل التي لا تشير إلى مصدر محدّد، أو تلك التي ترسَل إلى المسؤولين بدون توقيع أو ترسَل مذيلة بتواقيع مزيّفة لأشخاص أو لمنظمات وجمعيات وهمية أو سرية. أمّا معيار تمايزها الفعلي؛ فهو قدرتها على النمو والازدهار والعمل في بيئات معادية، أو في مناطق ملاصقة لأرض العدو. والحال فهي تعتبر أداة رئيسة من أدوات الحرب النفسية.
وإذا ما صير إلى إجراء مقارنة وازنة بين تلك الألوان الثلاثة التي تتنازع الدعاية، بغرض الوقوف على أكثرها خطراً، وأشدّها فعالية وتأثيراً وفتكاً؛ فإنّه سرعان ما يتكشّف أمامنا أنّ الدعاية الرمادية هي- بما لا يقاس- الأخطر بينها، والأدهى والأشدّ فتكاً، حيث بمقدور الإنسان العاقل، بقليل من الذكاء والوعي والفطنة، وإعمال الذهن والتمحيص، أن يقف على خلفيات ومنطلقات وأهداف الدعاية البيضاء، كما الدعاية السوداء، بسبب من كون كليهما تتحيّز وتتوضّع في فضاء واضح الرؤية. أما تلك الرمادية فلها شأن آخر؛ هي تأتيه من حيث لا يحتسب، وتراوده عن نفسه دون أن يستعصم، تتسلل إلى عقله ووعيه ووجدانه متلطية خلف مظاهر برّاقة وجاذبة، فتبدو بذلك كدسّ السمّ في الدسم؛ يتجرّعها قبل أن يدرك نواياها ويكتشف أهدافها، ويتعرّض لتأثيراتها ومفاعيلها دون أن يشعر ودون أن يدري، وإلى إن يستيقظ من غفوته، ويعي حقيقة ما نال من عقله ونفسه ووعيه وإرادته ؛ يكون «الفأس قد استقرّ في الرأس».
والجدير بنظر الاعتبار، أنّ حملات الدعاية لا تقتصر على لون دون آخر، ولا تكتفي بواحد منها، بل تجمع بين طياتها عادة صنوف هذه الألوان الثلاثة. لكننا لا نكون قد جانبنا الحقيقة والصواب، إذا ذهبنا بعيداً في ادّعائنا، أنّ الدعاية الرمادية تحظى ـ بينها ـ بالقسط الأوفر من العناية والرعاية والاهتمام، وليست سعة انتشارها، وكثرة استعمالها، وعظيم استحواذها على مساحات العمل والاشتغال، إلا دليلاً ومؤشراً على خطرها ودهائها، وعلى قوة أثرها وفعاليتها.
وتتخذ الدعاية السياسية أيضاً ـ ولكن بلحاظ علاقتها بماهية المصدر ـ شكلين مختلفين:
أ ـ الدعاية العمودية (Vertical propaganda): وهي الدعاية التي تتنزّل من علٍ، وتهبط على جمهور المتلقين على نحو عمودي، أي إنها تسلك مساراً انحدارياً من أعلى إلى أسفل، يقوم بها قائد، أو زعيم سياسي، أو رئيس، أو مرشد ديني، أو موجّه... ما يُبقى رجل الدعاية خارج اصطفاف الجمهور واحتشادهم، ولكن غير بعيد، إذ يكون على علاقة وثيقة بهم، بحيث يبدو كواحدهم. وهذا ما يرتب بالضرورة- كي يستقيم الأمر- تفعيل أجهزة الاتصال الجماهيري المختلفة.
ب ـ الدعاية الأفقية (Horizontal propaganda): هي الدعاية التي تتمدّد على نحو أفقي داخل الجماعة، فلا تتنزّل أو تتساقط من علٍ، بل تتخذ في عملية توزعها وانتشارها وتشظيها مسارات هندسية مسطحة. الأمر الذي يحجب رجل الدعاية، ويخفيه، ويجعله بالتالي غير معلوم لدى الجماعة من حيث وجوده أو هويته؛ إذ ليس ثمّة قائد يتربّع على عرش الدعاية محرّكاً، وموجّهاً، ومحرّضاً... وإنما يتساوى في هذه المهمة جميع الأفراد الفاعلين، ما يُفضي إلى تشكيل وإنتاج وعي جمعي متماسك تتوسّله هاتيك الدعاية، وهذه فضيلتها. إلا أنّها قد تكتفي من حراكها بخطب ود الأذكياء بخاصة، ومخاطبة ذوي الألباب والعقول المتفتحة والراجحة.
إلا أنّ الأمر لا يستقرّ على هذه السويّة فحسب، لما يداخل معمار الدعاية من مكوّنات عديدة ، كما يداخل هويتها من عناصر وتحديدات، ما يجعل أنواعها تتعدّد بتعدّد مناظير أو زوايا الرؤية إليها: